حوار حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر
1,527
هذا الحوار أجريناه مع فضيلة الشيخ جعفر شيخ إدريس أثناء زيارته للمملكة. تطرقنا فيه إلى أحداث التفجيرات الأخيرة التي تعرضت لها أمريكا وما ترتب عليها من حملة ضد الإرهاب. وقد ذكر الشيخ أن العالم الإسلامي ما زال يرى أنه صاحب رسالة وأنه غير راضٍ عن الحضارة الغربية. وأن الغرب يطلب من الحكومات الإسلامية شيئاً لا يستطيع هو أن يفعله داخل بلاده. ومن عيوب السياسة الخارجية الأمريكية أنها لا تعتمد على رأي الشعب كما هو الشأن في القضايا الداخلية المحلية ؛ وأن الشعب الأمريكي غير مهتم بالعالم ويجهله. ومن المؤكد أن هذا الحدث جعل كثيراً من الأمريكيين يهتمون بالعالم الخارجي. وتطرق أثناء حديثه أيضاً إلى دور العلماء وأصحاب الرأي مؤكداً أهمية استقلاليتهم، وأن على العالم وصاحب الرأي أن يقول ما يرى أنه الحق بالطريقة المناسبة، ولا يكون عالما ولا صاحب رأي إذا كان همه أن يبحث عما يريده الحاكم ليوافقه عليه.

وإليك عزيزي القارئ نص الحوار

س1. حدث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاه من تطورات وتداعيات، ما هي قراءتكم له، هل ترون أنه أتى تطوراً طبيعياً للصراع بين المسلمين والغرب، أو أنه أتى إفرازاً غير طبيعي لواقع المسلمين اليوم وواقع الغرب، أم أنه أتى تطوراً غير متوقع وخلق نوعاً من التغيرات العديدة من بعده ؟

ج1. لا أظن أن أحداً كان يتوقع الحدث، حتى إن بعض رجال ال”إف بي آي” قالوا: هل تتوقعون ولو في الخيال أن إنساناً يختطف طائرة ركاب ويستعملها صاروخاً؟! فطريقة الحدث غير متوقعة.

أما أنه كان تعبيراً عن تظلم المسلمين من الغرب وسخطهم وكراهيتهم للسياسة الأمريكية، فهذا أمر طبيعي، وقد ذكرت هذا ضمن أول خطبة خطبتها في الولايات المتحدة بعد وقوع الحدث، وقلت: إن كثيراً من المسلمين يرون أن هذا العمل خطأ، لكنهم يشاركون من قام به – إن كانوا مسلمين – في سخطهم على الغرب، وإن خالفوهم في طريقة التعبير عن هذا السخط.
الحدث كان غريباً، وردود الفعل تجاهه في العالم الإسلامي أعتقد أنها فاجأت الغرب إذ إنهم كانوا لا يعتقدون – من جانب – أن في هؤلاء الناس من هو بهذه المقدرة في إحكام العمل، كما أنهم لم يكونوا يعتقدون فيما يبدو أنهم مكروهون إلى هذا الحد بين المسلمين.

س2. من خلال وجودكم في أمريكا، ومعايشتكم لها من الداخل، ومتابعتكم لما يصدر فيها من دراسات، وإصدارات هل توافقون ما ينتشر في منطقتنا العربية من تحليلات تجزم بأن الحدث مدبر ومخطط له من الغرب واليهود تحديداً ؟

ج2. هذه – في حد ذاتها – مشكلة عويصة، فمنذ أن وصلت إلى المملكة وأنا أذكر بعض الإخوان، بأن هنالك فرقا كبيرا بين الممكن و المحتمل. إن دائرة الممكن – هذه – واسعة جداً. لكن المهم عند الإنسان المفكر هو الشيء المحتمل ؛ الذي يغلب على الظن أنه يحدث لدلالة بعض الأمارات عليه. أنا لا أقول: إنه قد قام دليل على أن من اتهموا بهذا العمل هم الذين قاموا به فعلا، فالولايات المتحدة فشلت في أن تقدم دليلاً. واعتذارها بأن كشف الدليل يؤثر على عملياتهم اعتذار واهٍ. لماذا تتوقع الولايات المتحدة من الناس أن يصدقوا زعمها، وهم قد جربوا عليها الكذب من قبل في مثل هذه الدعاوى. ألم يكونوا – مثلاً – يؤكدون أن لديهم أدلة قاطعة على أن المصنع الذي ضربوه في السودان كان مصنعا لإنتاج مواد جرثومية؟ ثم تبين بشهادة بعض الأمريكان وبعض الإنجليز أن هذا ليس بصحيح حتى اضطرت الحكومة نفسها أن تعترف بهذا! فأنا لا أتهم من اتهموا ؛ لعدم توفر الدليل، لا لأنني أعتقد أنه ليس في العالم الإسلامي من هو ذو مقدرة على تنفيذ عمل متقن كهذا، الحدث من حيث التخطيط متقناً، وكثير من الإخوان استبعدوا أن يكون العمل عربياً إسلامياً، لم يستبعدوه من حيث أنه عمل غير شرعي وغير أخلاقي، ولكن استبعدوه من حيث الإتقان.

بينما في الجانب الغربي كان كثير من عقلاء الأمريكان يرون أن المهم بحثه هو: لماذا نحن مكروهون إلى هذه الدرجة؟ وأرى أن ذلك من أهم النتائج الخيرة التي حدثت قدراً بسبب الحدث. لكن المنهي شرعاً قد يحدث منه خير قدراً. فحدوث الخير القدري بسببه لا يؤخذ دليلاً على مشروعيته. فالافك لم يكن مشروعا لكن الله – تعالى – قال مشيرا إلى آثاره القدرية: “لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرٌ لكم ” فكذلك هنا العمل غير مشروع، بغض النظر عمن قام به، لكن أعقبه خير كثير.
قلت: إن السؤال مهم جدا، لكن بعض الإجابات عنه كانت في غاية السذاجة بل والسخف، كإجابة الرئيس (بوش) في خطابه المشهور أن ما يكرهه الناس فيهم هو الحرية فرد عليه أحدهم في بعض الصحف بأنه لا يعقل أن يقتل إنسان نفسه بهذه الطريقة لأنه ضد الحرية، وقال آخرون: إن المعروف عن أمثال هؤلاء الشباب أنهم ضد الحكومات الدكتاتورية.

س3. لكن يلاحظ بعد التفجيرات السابقة التي تتهم بها هذه المجموعات (تفجيرات إفريقيا – المدمرة كول قرب اليمن) تزايد الحديث في الدوائر الأمنية لديهم عن الخطر الإسلامي وترشيحه؛ ليكون العدو القادم مقارنة بالشيوعية وغيرها، وأنهم تحدثوا في أحد التقارير عما يسمى (الحرب غير المتوازية) وأنه عدو يختلف عن غيره، وما إلى ذلك.
هناك بعض التقارير التي نشرت أعطت شيئاً من الانطباع أن مثل هذه المتغيرات كانت متوقعة، إن لم يكن بالحجم نفسه، لكنهم يتوقعون ضربة من هذه المجموعات قد تكون من داخل أمريكا، وأيضاً بعض الإرهاصات كانت تتحدث عن أنه ستكون هناك تصفية حسابات مع أفغانستان، وأنه تحدث عن توقع ضربة قريبة في أكتوبر، ما تعليقكم على ذلك ؟

ج3. هذا الأخير لا أعلمه. أما كون الإسلام هو الخطر، فقد حدث هذا بعد سقوط الشيوعية مباشرة، وأعتقد أن الخطر الذي كانوا يتحدثون عنه هو أن العالم الإسلامي ما زال يعتقد أنه صاحب رسالة وأنه غير راضٍ عن الحضارة الغربية، حتى في كتاب “فوكوياما” “نهاية التاريخ” الذي قال فيه: إن العالم كله يتجه إلى الرأسمالية وإلى الليبرالية في السياسة استثنى المسلمين، وقال: إنهم ما زالوا يعتقدون أن عندهم بديلاً عن هذا.
وأعتقد أن الخطر الذي كانوا يرونه – وما زالوا يعتقدون أنه أهم من التفجير- هو أن يعود المسلمون في بلادهم إلى الحكم الإسلامي، وأن هذا فيه خطر كبير على الغرب. لذلك يرون أن الخطر الكبير هو الإسلام، وليس جماعة بن لادن، فالكلام الذي يُقال الآن: إن هناك تصوراً للإسلام يُدرس في الجامعات والمعاهد، وإنه هو الذي ينتج هذا النوع من التفكير المرتبط بالجهاد و “الإرهاب”. هذا ظهر واضحاً في سؤال سألته إحدى الصحافيات الأمريكيات للرئيس الباكستاني “مشرّف” أثناء لقاء بينه وبين وزير الخارجية الأمريكي “باول” قالت كلاما فحواه: إنه يوجد لديكم معاهد للطلاب مثلهم الأعلى فيها هو أشخاص، مثل: أسامة بن لادن، فهل ستفعلون شيئاً في هذا ؟ أجاب مشرف ” نعم، ووصفه بأنه فكر متطرف، ووعد بإعادة النظر في المناهج الدراسية.
وانظر في هذا الإطار إلى الحملة غير المتوقعة على السعودية، لماذا تُهاجم السعودية وتُهاجم مصر، وهما أكبر دولتين في العالم الإسلامي تعدّان صديقتين للولايات المتحدة، لكن الهجوم عليهما كان أكثر من الهجوم على أي دولة أخرى، لا العراق، ولا سوريا؟

السبب هو أن هذا الإسلام التقليدي إسلام الكتاب والسنة هو الذي يُنتج – في نظرهم- مثل هذا الذي يسمونه الإرهاب، وأنه أكثر ما يوجد في السعودية ومصر. ولكن, يبدو أنهم استفادوا من خبرائهم، فقالوا لهم: لا تقولوا الإسلام، لا تقولوا الكتاب والسنة، بل قولوا الوهابية – أي أن الوهابية هي التي تُنتج الإرهاب ولا سيما من حيث كونها تربط الناس بفكر ابن تيمية وبالجهاد، كما يقولون. والخطر القادم – في اعتقادي – هو أن الغرب سيطلب من الحكومات الإسلامية أن تقوم بمحاربة هذا النوع من الإسلام، لكنهم لن يسموا الإسلام باسمه بل سيلجؤون إلى استعمال كلمات مثل الوهابية. وأرى أن هذا خطر كبير؛ لأنه سيحدث فتنة عظيمة في داخل العالم الإسلامي، ويوسع الشقة بين الحكام وبين عامة الشعب إذا استجابت للرأي الأمريكي حكومات إسلامية غير عاقلة. إنك قد تخدع الناس بأن تقول لهم إنك إنما تحارب هذا الرجل أو ذاك وهذه الجماعة أو تلك، أما أن تقدم على تحريف الإسلام نفسه تحريفا رسمياً فهذا لن يكون مقبولاً ألبتة إن شاء الله. ولا أدري كيف تُغير مناهج التعليم، هل سيُطلب من الناس عدم دراسة القرآن ؟ !! لا أدري ماذا سيفعل هل سيطلب تدريس كتب الصوفية، أو الكتب التي تدعو إلى مجرد الذكر والعبادة ولا تربط الإسلام بالحياة الاجتماعية والجهاد. إن الذي يريده الغربيون منا هو إسلام بمفهوم علماني، إسلام لا علاقة له بالسياسة ولا بالنظم الاجتماعية والعلاقات الدولية. فالإسلام التي ترضى عنه الحضارة الغربية العلمانية هو دين كالمسيحية المعاصرة، يرضى بالعيش في كنف الدولة العلمانية، ولا يكون بديلاً عنها. كانت الشيوعية ـ مع كونها هي الأخرى علمانية ـ تمثل تحديا لنمط الحياة الغربية الليبرالية ولا سيما في الجانب الاقتصادي. أما الآن فلا يوجد منهج حياة متكامل يتحدى المنهج الغربي السائد إلا الإسلام.
وأرى أن هذا هو الخطر القادم الذي يجب أن تنتبه له الجهات المسؤولة، وينتبه له العلماء والدعاة، ولابد أن يكون هناك تعاون بين العلماء وقادة الفكر، وبين الحكومات التي بيدها الأمر.
إن الغرب يطلب من الحكومات الإسلامية شيئاً لا يستطيع أن يفعله بطريقة رسمية في داخل بلاده.

إن المرء يستطيع الآن بحسب القانون الأمريكي أن يكوّن جمعية أسميها “الجمعية الوهابية ” وقول: إن هذه الجمعية ملتزمة بكل ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويمكن أن أقيم مدرسة تابعة لها وأكتب من الكتب ما شئت، ولا يستطيع أحد أن يمنعني. فهذه حرية لا يستطيع أن يمنعها الغرب في بلده، لكنه يطلب من الحاكم المسلم أن يمنعها.

كل هذا يدل على أن الغربيين يريدون الديمقراطية لأنفسهم فقط، أما الدول الأخرى فإنهم يعاملونها معاملة الدكتاتور. فالولايات المتحدة دولة ديمقراطية محلياً، لكنها بوصفها دولة كبرى هي دكتاتورية كشر ما تكون الدكتاتوريات. خذ أحداث أفغانستان الراهنة هذه مثلاً. لو أن المتهم بها كان شخصاً أمريكيا فهل كان سيعامل معاملة ابن لادن؟ ولو أن التي تخفيه كانت ولاية أمريكية هل كانت ستعامل كما تعامل الآن دولة أفغانستان؟ كيف تطلب من حكومة لأمة تعتز بنفسها أن تستجيب لطلبك من غير مناقشة ولا حوار؟ إنك لا تستطيع أن تفعل هذا لمتهم بجريمة في أمريكا. لا بد من تقديمه لمحاكمة، ولا بد من دليل على التهمة.
ولماذا لا يُستجاب لطلب أفغانستان حين تقول: إنها تريد للمتهم أن يحاكم وفق الشريعة الإسلامية؛ لأن هذا هو دستورها؟ لماذا يُطلب منها أن تسلم المتهم لمن سيحاكمه بغير هذا الدستور؟

إن الولايات المتحدة تَعد دستورها فوق كل قانون آخر، وتعد قرارات مجالسها التشريعية فوق كل قرارات أخرى، حتى تلك التي تصدرها هيئة الأمم المتحدة. إن الولايات المتحدة لا تلتزم التزاماً قانونياً بأيّ من هذه القرارات إلا إذا صادق عليها الكُنغريس. لماذا إذن يستغربون حين يقول لهم المسلمون إن القرآن الكريم عندنا هو كدستوركم هذا عندكم؟ فلماذا تعيبون علينا ما تجيزونه لأنفسكم؟

س4. هل ترى إذن أن الغرب لن تنتهي القضية بالنسبة له في تصفية الحسابات مع هذه المجموعات التي يصفها بالإرهابية ؟

ج4. نعم، لن تنتهي القضية بتصفية تلك المجموعات ؛ لأن هذه المجموعات جعلوها كبيرة جداً وتوسعوا فيها. فلن تنتهي إلا إذا حدث رد فعل قوي في العالم الإسلامي.

لذلك أرى أن مسألة الإرهاب يجب ألا نسارع بنفيها عن الإسلام ؛ لأن كلمة (إرهاب) هذه في اللغة العربية والإنجليزية معناها التخويف، والتخويف – أحياناً – يكون مشروعاً، وأحياناً يكون غير مشروع. وكنت أظن أن الكلمة في اللغة الإنجليزية محدودة المعنى، لكن وجدتها في استعمالاتها بالمعنى العربي نفسه؛ لأنها يمكن أن تستعمل في إثارة الرعب في نفوس الأعداء فيكون إرهابا مشروعاً. وقد استعملت الكلمة بهذا المعنى المشروع في القرآن الكريم. فلا يجوز لنا – إذن – أن ننفيها عن الإسلام نفياً مطلقاً أما النفي المقيد فنعم. نقول – مثلا – إننا ضد الإرهاب العدواني، أو ضد إرهاب الأبرياء وهكذا. وأرى أن مثل هذا التقييد يساعد في مشكلة تعريف الارهاب التي اختلف الناس فيها اختلافا كبيراً. فنحن مع العدل حتى مع الأعداء وضد العدوان مهما كان حتى مع أبغض الأعداء. قال تعالى: “ولا يجرمنكم شنئآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا” إذاً الممنوع هو الاعتداء، فإذا كان الإرهاب اعتداءً فهو ممنوع وكذلك القتال، أما إذا كان القتال دفاعاً عن النفس فهو مشروع، وكذلك الإرهاب.

ومن ثم يجب ألا يكون موقفنا موقفاً اعتذارياً ؛ لأننا كلما اعتذرنا ازداد الضغط علينا وتقهقرنا، ونحن نقول ونؤكد على أن هذا ديننا ونؤمن بأن هذا الدين حق، ولا يوجد دين مثله، وأرى أن هذا الموقف القوي من الناحية الفكرية أهم من المواقف القوية من الناحية العسكرية، هذا الموقف القوي يؤثر على الناس في الغرب الذين يدخل الكثيرون منهم في الإسلام بحمد الله تعالى.

إننا نربأ بأنفسنا أن نصل إلى درجة الهوان التي وصل إليها بعض المنتسبين إلى الإسلام في الغرب. فهذا رجل أمريكي مسلم مشهور كان من أشد الخطباء نقداً للحكومة الأمريكية، وللجماعات الإسلامية التي يراها غير ملتزمة بما يراه المنهج الصحيح، منهج المذهب الصارم والتصوف، لكنه رؤي بعد وقوع الحادث يصفق لبوش في الكُنغريس، ثم بدأ يقول للأمريكان غير المسلمين كلاماً لا تقوله مالكية ولا صوفية ولا أشعرية بل ولا حتى جهمية. قال – فيما قال -: إن كلمة الجهاد لم ترد في القرآن بمعنى القتال، وأنه إذا كان هناك شهداء فهم رجال الإطفاء، وأن كلام القرآن الكريم عن الحور العين كلام مجازي. قال الكلمة الأخيرة لأن بعض الكتاب والمفكرين الأمريكيين يظنون في سذاجة أن الذي يدفع أمثال أولئك الشباب إلى الانتحار هو شوقهم للاستمتاع بالنساء الجميلات اللاتي يصفهن القران الكريم، حتى إن كاتباً يهودياً مشهوراً يكتب في “نيويورك تايمز” قال إن على المسلمين أن يفتوا بأن من فعل هذا لا يدخل الجنّة!.

س5. عند الاستدلال بقصة الرجل الأمريكي المسلم أكدتم بأن المبالغة في الاعتذار تخســر أكثر مما تكسب، كيف ذلك ؟

ج5. أولاً مثل هذا الكلام لن يُصدَّق ؛ لأن كثيراً من الناس المسلمين وغير المسلمين يقرؤون القرآن الكريم وكثيراً من الكتب الإسلامية الأساسية، فسيكتشفون أن ما يقوله هذا الرجل وأمثاله ليس بصحيح.

إن الذي يوقع كثيراً من الناس في مثل هذا الخطأ هو أنهم ينسون أن مهمة الرسل، وبالتالي الدعاة إنما هي تبليغ كلام الله تعالى. أما مسألة قبول هذا الكلام والاهتداء به فأمر لم يكلفنا الله – تعالى – به، وإنما خص به نفسه – سبحانه -. إن مهمتنا هي ما ظل القرآن يكرره للرسول – صلى الله عليه وسلم – في مثل قوله تعالى “يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” وقوله “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”

نعم، إن علينا أن نبذل غاية وسعنا في بيان كلام الله، وتحبيبه للناس والدفاع عنه شريطة أن نكون ملتزمين – في كل هذا – التزاماً صارماً بهداية الدين الذي ندعو إليه فلا نبدله ولا نحرفه؛ طمعاً في أن يقبله بعض الناس، لأنهم إذا قبلوا ما حرفنا لا يكونون قد قبلوا الإسلام الصحيح وإنما إسلاماً من اختراعنا نحن. فهل يُقدم على مثل هذا عاقل؟

لكن أكرر أن هذا الاستمساك لا يعنى الغلظة والفظاظة، والميل إلى تصوير الدين وكأنه شيء مناقض للعقل ولما تعارف عليه كل العقلاء من العدل والانصاف ومحاسن الأخلاق. قال لي بعض هؤلاء الغلاة وهو يدعو إلى قتل الكفار: “ألم يقل الله تعالى: “اقتلوهم حيث ثقفتموهم”. إذاً كلما وجدنا كافراً على وجه الأرض نقتله؟” أبهذا يأمرنا ديننا؟ لا بد من وضع النصوص في مواضعها الصحيحة المناسبة، وألاّ ننسى أن مهمتنا الأساس هي الدعوة وأن يجعلنا الله تعالى أسباباً لهداية من يريد هدايته “فوالله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.”

س6. هذه التفاصيل تقحمنا إقحاماً في قضية بحث الحدث ذاته، رغم أننا حاولنا أن نتجنب الحدث بتفاصيله، لكن القضية تفرض نفسها بإلحاح في أذهان كثير من المتابعين من المسلمين بعامة، أو العاملين للإسلام من الدعاة أو أفراد الحركات الإسلامية من جانب شرعية الحدث أو عدمه ؟

ج6. نحن نستطيع أن نفسر دوافعه، أما مشروعيته فقد قلت وقالت جمهرة من العلماء والدعاة: إنه عمل غير صحيح.

وقد تحدثت في السودان لبعض طلاب العلم وقلت: إنكم موجودون في السودان ولا يهمكم الأمريكان، لكن ما بال الذي يعيش بينهم ويدعوهم إلى الإسلام، ويقول لهم:إن رسول هذا الدين يقول: “عُذبت امرأة في هرّة حبستها حتى ماتت جوعاً ؛ فدخلت فيها النار “، وقال عن امرأة قتلت في إحدى المعارك: “ما كانت هذه لتقاتل “.معنى ذلك أنه لا يُقتل إلا المقاتلون حتى عندما يكون المسلمون في معركة مع عدوهم. وأن هذا النبي الكريم الرحيم نهى عن قتل الذرية، وعن قتل المنعزلين للعبادة، لكن أمثال هؤلاء قد يُقتلون اضطراراً، ومن غير أن يكونوا هم المقصودين. وهذا شيء يسلم به ويقره كل الناس وهذا الذي يطلقون عليه في الغرب عبارة Collateral Damage أي إصابات جانبية.
إذن ما حدث في أمريكا عمل لا يقرّه الإسلام بغض النظر عمن قام به. لكن ما تفعله أمريكا وحلفاؤها الآن في أفغانستان أعظم جرماً مما حدث لهم. كيف تقوم دولة كبيرة بعمل منظم من النوع نفسه الذي تريد أن تعاقب عليه بوصفها جريمة ضد الإنسانية؟

س7.هل من حق جماعة لا تمثل عموم المسلمين وقد وقع عليهم اعتداء من الطرف الأمريكي أثناء الضربات التي وقعت على أفغانستان خلال الفترة الماضية، والبلد الذي يقيمون فيه ليس بينه وبين أمريكا عهد والعداوة نشأت فيما بينهم، وأنهم بفعلهم هذا هم يردون على الاعتداء الذي وقع عليهم، وكنا قد تحدثنا أنه في الإسلام يمكن أن ترد بالاعتداء على من اعتدى عليك. هل يمكن أن يوجد لهم مبرر من هذا الجانب، أنهم أولاً يردون اعتداءً سابقاً وقع عليه، وقد تظلموا وربطوا الموضوع بعداوات الصليبية، وعلى رأسها عداوة أمريكا للمسلمين وقضية فلسطين، وأيضاً العداوة الشخصية فيما بينهم – هذا إن كانوا هم من قاموا بارتكاب الحادث – هل يقبل أن يستقلوا عن عموم الأمة المسلمة.
فيخرجوا بمثل هذا القرار، ويفتحوا مثل هذه المواجهة بين العالم الإسلامي والغرب ؟!

ج7. نحن لا ندري إلى الآن من الذي نفذ التفجيـرات، طالبان نفت هذا، وابن لادن في أول تصريح له نفى أن تكون له علاقة مباشرة بالحدث. فمن الذي أعلن الحرب؟
أما إذا كان السؤال عاما وافتراضياً فأقول: إنه ما دامت تلك الجماعة داخل دولة مسلمة فلا يجوز لها أن تنفرد باتخاذ قرار خطير كهذا. بل يجب عليها أن تأتمِر بأمر المسؤولين في ذلك البلد مهما كان نوع الاعتداء الذي وقع عليهم. إن الحرب أمر خطير وذو عواقب عظيمة لا تقتصر على أولئك الأفراد، فمن حق البلد الذي هم فيه أن تكون هي التي تقضي بما إذا كانت مهيأة لخوض حرب أم لا، وإذا ما كانت الحرب في هذا الطور من حياتها في مصلحتها أم لا.
ثم إن كون دولة ما معتدية ومحاربة لا يكون وحده سبباً لإعلان الحرب عليها، وإنما تُعلن الحرب عندما يكون المسلمون مستعدين لها ومقدرين أنها في مصلحتهم. وإلا فعليهم أن يسلكوا سبلاً أخرى. ألم يقل الله – تعالى – للمسلمين وهم بمكة “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة”، ألم تكن قريش في هذا الوقت معتدية؟ ألم يكونوا يستحقون أن يقاتلوا؟ بلى، ولكن المسلمين لم يكونوا من حيث القوة المادية قادرين على قتالهم، ولا سيما وهم بين ظهرانيهم. قال ابن كثير شارحاً النهي عن القتال في مكة “ولم يكن الحال إذ ذاك – مناسباً – لأسباب كثيرة، منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم.” عندما هاجر المسلمون، وصارت لهم أرض وأمكنهم أن يقاتلوا، قال – جل وعلا – “أُذِن للذين يقاتلون بإنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله”. فالظلم كان موجودا قبل الإذن بالقتال، وكذلك إخراج بعضهم من ديارهم. لكن الذي حدث – الآن – أن المسلمين صاروا في موضع فيه قوة. ومع ذلك لم يؤمروا بالقتال، وإنما أعطوا إذنا به. ولم يؤمروا به إلا بعد أن زادت قوتهم.

إن الذي أخشاه من نوع الحجج التي بدأت تثار أن هناك شيئاً أصيلاً في الإسلام أصبح بعض الناس يتجاهلونه، وأصبحوا يفكرون بطريقة الأديان الخرافية التي لا مكان فيها للعقل، ولا للأخذ بالأسباب الدنيوية. هذا مع أن مما يميز هذا الدين: أن العقلانية جزء لا يتجزأ عنه. وأعني بالعقلانية: الأخذ بالأسباب التي جعلها الله أسبابا للآثار التي يتغياها الناس، وأعني به مسائل كارتكاب أخف الضررين، وتحقيق أكبر المصلحتين، واعتبار النتائج المترتبة على الأعمال. كل هذه أمور أمرنا الله – تعالى – بها. فالأخذ بها جزء من الدين، فلا يجوز لإنسان أن يهملها، ثم يعتمد على نصر الله – تعالى – له لأنه مسلم ؛ وذلك لأن الله تعالى إنما ينصر من ينصره، وإن من نصره أن تأخذ بكل ما تستطيع الأخذ به من الأسباب التي جعلها الله أسباباً. ثم تتوكل بعد ذلك على الله تعالى معتقداً بأن النصر لا يكون إلا منه، وأن هذه الأسباب التي أخذت بها لا تؤتي ثمارها إلا بإذن الله تعالى. إنني كثيرا ما أستشهد على هذا بالاحتياطات التي احتاطها النبي – صلى الله عليه وسلم – في هجرته، احتياطات لو نظر فيها إنسان علماني لا يعرف الرسول – صلى الله عليه وسلم – لظن أنه إنسان عقلاني بحت. ثم لو نظر إلى عبادته ودعائه وتوكله واعتماده على الله تعالى، لظنه رجل دين لا علاقة له بالعقلانية.

الذي يميز المسلمين أنهم عرفوا بهداية ربهم أن الأسباب نوعان: أسباب دنيوية، وأسباب روحية. فكما أن إعداد القوة المادية سبب؛ فالدعاء أيضا سبب. فلا ينبغي لإنسان يزعم أنه مسلم أن يهمل أياً منهما. انظر إلى الحذر الذي أمر الله – تعالى – به المسلمين حين يريدون الصلاة وهم في لقاء مع عدوهم. لو تُرك الأمر لصاحب التفكير الخرافي لقال: لا داعي للأخذ بكل هذه الاحتياطات، فنحن مسلمون ومقبلون على ربنا في صلاتنا، فهو ناصرنا.
فنصوص الكتاب السنة الآمرة بالأخذ بالأسباب وتقدير النتائج، وارتكاب أخف الضررين لا تكاد تحصر، لكنك إذا ذكرت للناس كلاماً كهذا اليوم ربما ظنوا أنك رجل ضعيف الإيمان متأثر بالتفكير المادي.

س8. كيف تنظرون لمثل هذا التباين في المواقف على المستوى العلمي الشرعي، وإلى ماذا تعزونه؟

ج8. أحد الأسباب أنه عندما تفقد الأمة علماءها الكبار الذين يثق بهم عامة المسلمين ويرجعون إليهم في حدث مثل هذا، فلا بد أن نتوقع هذه النتائج.
السبب الثاني: عدم تشاور العلماء. مع أن المناسب في مثل هذه الأحداث الكبيرة ألاّ يلجأ كبار علمائنا إلى الفتاوى الفردية، بل يحسن بهم أن يتشاوروا، ويحاولوا إصدار فتاوى جماعية. حتى لو لم يجمعوا على أمر فإن التشاور والاتصال حري بأن يضيق من شقة الخلاف.

س9. ترى بعض الجهات أن حل مثل هذا الأمر يكون في حصر الفتوى بالجهات المصرح لها رسمياً دون اعتبار لغيرهم ممن ليسوا من أهل المناصب الرسمية في الجانب العلمي الشرعي. رغم أنهم لا يقلون مكانة، بل قد يكونون هم الأقرب تأثيراً على المسلمين، وهذا ما يزيد المشكلة.

ج9. لكن الواقع أن هذا لم يحل المشكلة، فما زال بعض العلماء يرون أن من حقهم أن يفتوا الناس بما يرون أنه الحق وإن خالف من يحترمون ويجلون من الهيئات العلمية الرسمية. فماذا نفعل معهم؟ هل نستطيع أن نقول لهم إنه لا يجوز لكم شرعاً أن تفتوا؟

لكن من المستطاع – في رأيي – أن ينظم الأمر بالطريقة التي ذكرتها. ما أظن أن عالماً عاقلاً سيقول إنني سأصر على فتواي مهما كان الضرر المترتب على الخلاف بيننا. إن مشكلة الفتاوى أنها لا تعدّ تعبيراً عن رأي، شأنها شأن مثل هذه اللقاءات أو المقالات، وإنما يعدها الناس حكماً شرعياً هم ملزمون به، ولذلك أرى أن تُعالج بطريقة غير التي تعالج بها المقالات التي تعبّر عن آراء. إن التشاور في مثل هذه الأحوال مهم جداً بل إنني لأراه ضرورة. تشاور ليس بين العلماء فقط، وإنما مع أهل الخبرة والرأي – أيضا -، لأن الفتاوى ليست بياناً لحكم شرعي عام، وإنما هي حكم على حوادث واقعية يلزم المفتي أن يحيط بها ما استطاع. ولا يتوقع من أي إنسان مهما كان تخصصه أن يلم بكل الواقع المتعلق بكل حادثة ؛ لهذا لزم اللقاء والتشاور.
من أمثلة ذلك أن أحد العلماء بنى فتواه على فهم للديمقراطية ليس بصحيح، وعلى حوادث لم تكن كما وصفها. إننا كثيراً ما نفترض أن الشورى أمر يتعلق بالحكام الرسميين فقط، مع أن الله تعالى جعلها وصفاً للمؤمنين. فهم يتشاورون في كل ما يهمهم من الأمور الفردية والجماعية. والتشاور في المسائل الجماعية مثل مسألة الحرب واجب، لأن آثار الحرب تشمل كل إنسان تقريباً. ولهذا أرى أنه لا يجوز لفرد، أو جماعة إسلامية أن تنفرد بقرارات في مثل هذه القضايا الجماعية. أليس من حق المسلمين في أمريكا – مثلاً – أن تستشيرهم إذا كنت ستقوم بعمل يؤثر عليهم؟ لا أقول تستشير كل المسلمين وإنما تستشير الموثوق بهم من قادتهم وعلمائهم.

س10. نود أن نتوقف عندما تفضلتم به من الحاجة إلى إعطاء القيادات العلمية المستقلة دوراً من الأهمية في مثل هذه الظروف ؟

ج10. أجل، إن هذا لأمر ضروري حتى للحاكم ؛ لأن الواقع أن للناس قيادات غير رسمية يثقون بها، بل ويأتمرون بأمرها. هذا أمر موجود في كل بلاد الدنيا وحضاراتها، والتاريخ الإسلامي حافل به. فما دام العالم صاحب الرأي لا يحمل سلاحاً ولا يخرج على الحاكم ولا يريد منافسته، بل يلتزم الوسائل السلمية، فلا أرى مسوغاً لمنعه من التعبير عن رأيه، ولا أرى هذا المنع مفيداً لا للحاكم ولا للبلد عامة. أقول كل هذا في حدود ما ذكرنا سابقاً من ضرورة التشاور إبان الحوادث الكبيرة.

س11. أيضاً يأتينا جانب آخر، وهو جانب تغفل عنه بعض القيادات العلمية، وهو أنه قد ينظر لفتوى أو وجهة نظر معينة أنها تسير لخدمة هذه الجهة أو تلك، أفلا ترى معي أن هناك مسؤولية على القيادة العلمية أن تكون في مثل هذه المسائل متحررة من التأثيرات؟

ج11. أثناء أزمة الخليج قلت واستعملت تعبير: “أهواء الحكام وأهواء العوام ” نعم، إن على العالم وصاحب الرأي أن يقول ما يرى أنه الحق بالطريقة المناسبة، ولا يكون عالماً ولا صاحب رأي إذا كان همه أن يبحث عما يريده الحاكم ليوافقه عليه. لو كنت حاكماً لما قربت أمثال هؤلاء ؛ لأنهم لا يفيدونني بشيء. ولكن ما يقال عن الحكام يقال أيضاً عن العوام، بل إن الاستجابة لأهواء العوام قد تكون أخطر. كذلك يـنبغي للعالم والمفكر ألاّ يُسخِّر أقواله لجماعة ينتسب إليها مهما كانت ثقته بها. وقد رأينا علماء كبارا وقعوا في مثل هذه المتابعة لجماعاتهم، وهي متابعة قد تكون شراً من متابعة الحكام. على العالم صاحب الرأي أن يبذل وسعه في تحري الحق، ثم يصبر على ما يصيبه بسببه. و أن يكون قائداً لا تابعاً.

س12. نتحدث الآن عن حكومة (طالبان) بناءً على كلامكم في ظل تعقيد العلاقات الدولية والنظم التي ظهرت نجد حقيقة واضحة أن حكومة طالبان تفتقر إلى مقومات الخبرة السياسية العالمية: لو فرضنا – جدلاً – أن حكومة طالبان استمرت بعد الأحداث الجارية، هل فعلاً تملك المقومات التي تجعلها تستمر ؟ ! وهذا يقودنا إلى أن نطرح إشكالية هل بناء الدين مقدم على البناء الحضاري أو العكس؟

ج 12 الدين – كما يقول المختصون بالحضارات – هو أهم عناصر الحضارة، بل هو جوهرها. فلا يمكن – إذن – أن نجعل أحدهما في مقابل الآخر. فلكي تكون الدولة ناجحة ومؤدية لمهامها يجب أن تأخذ بكل وسائل عصرها المشروعة، ولا بد من التمييز في هذا المجال بين ما أسميه “أهواء العصر وضروريات العصر”، فبعض الناس، مثل العلمانيين – عندنا – يريدون أن نأخذ بأهواء العصر، مثل تقليد الغرب في الحياة الاجتماعية من مظهر، ومأكل، ومشرب وزواج، وأدب، وما إلى ذلك من أمور لا علاقة لها بأسباب التطور الحقيقي. قلت – ذات مرة -: إن مثل الذين يركزون على الأهواء، أو ما يسمى بالثقافة (بالمعنى الاجتماعي الاصطلاحي) كمثل شاب أعجب بأحد العدائين فأراد أن يكون مثله، فذهب واشترى مثل لباسه ! هنالك ضروريات عصرية إذا لم تأخذ بها الدولة لا تكون في ذلك العصر دولة قوية ناجحة. أنا لا أريد أن أظلم طالبان، فمعرفتي بها ليست كبيرة. لكن الذي يمكن أن يقال بصفة عامة إن الأخذ بالدين لا يكون أخذاً كاملاً إذا ما حُصر في مسائل العبادات والأخلاق ؛ لأن الله تعالى جعل لبقاء المجتمعات والدول سنناً لا بد من الأخذ بها وإلا زالت الدولة مهما كانت قوية من حيث العقيدة والعبادات.
أعود فأكرر للإنصاف أن معرفتي بحكومة طالبان محدودة ولا تمكنني من تقويم تجربتهم، ولا سيما أن كثيراً ممن زاروا أفغانستان ذكروا أن الواقع فيه خير بكثير من الصورة القاتمة التي أشاعها خصومهم. فمثلاً كان يقال عنهم إنهم لا يعلّمون النساء. ولكن عند عودة لجنة العلماء الذين ذهبوا لإثنائهم عن تحطيم صنم بوذا، قال بعضهم ـ أظنه مفتي مصر – “إن معظم الكلام الذي يقال عن أفغانستان ليس بصحيح،وأنه يوجد عندهم كلية للطب فيها حوالي ألف طالبة “.

س 13. نرى قضية ملحة وجديرة بالطرح وهي قضية: كيف تنظرون لنتائج مثل هذا الحدث، وهل يمكن أن نرى جوانب إيجابية وطرق استثمارها؟

ج 13.أولاً: بالنسبة لأمريكا أظن أن الأحداث ستؤثر في السياسة الخارجية تأثيراً كبيراً. فمما هو معروف من عيوب السياسة الخارجية الأمريكية أنها لا تعتمد على رأي الشعب كما هو الشأن في القضايا الداخلية المحلية ؛ وذلك لأن الشعب الأمريكي غير مهتم بالعالم ويجهله جهلاً مطبقاً. فمن المؤكد أن هذا الحدث جعل كثيراً من الأمريكيين يهتمون بالعالم الخارجي ويتساءلون عن سبب كراهية كثير من الناس – ولا سيما – المسلمين لهم. هذا الاهتمام لا بد أن يحدث تغييراً في السياسة الخارجية، فمثلاً: الموقف من إسرائيل، فقد بدأ الناس يسألون – ولو على استحياء – السؤال الذي كان شبه محرم وهو: هل كان سيحدث لنا ما حدث لو لم نكن مع إسرائيل؟ بل قيل: إن بوش غضب من شارون غضبا جعله يغلق سماعة الهاتف في وجهه. مما لا شك فيه أن مثل هذا السؤال من إيجابيات الحدث.
الأثر الإيجابي الثاني الذي صار معروفاً هو أن الحدث أثار فضول أعداد هائلة من الأمريكان في أن يعرفوا شيئا عن الإسلام، وأن بعض من فيه خير من هؤلاء هداه الله – تعالى – فصار مسلماً ؛ لذا دعوت – بإلحاح شديد – إلى توفير الآلاف المؤلفة من ترجمة القرآن الكريم ؛ لأنه هو السبب الأول لدخول الناس في الإسلام.
ثالثاً: أن هذه التفجيرات جاءت في مقتل بالنسبة للغرور الأمريكي، وأرى أن الخسائر المادية كانت أقل بكثير من الخسارة المعنوية، وجعلت الأمريكيين يسخرون من ال “إف بي آي” وال “سي آي إي” الذين كانوا يعتقدون أنهم يحصون على الناس أنفاسهم. بل إنها أسقطت هيبة أمريكا في العالم، أو قل قلّلت منها كثيراً. وربما كان هذا هو السبب في أن أمريكا تحاول – الآن – إظهار نفسها في أفغانستان بمظهر القوة التي لا تُغلب، والتي ينبغي أن يحسب لها مخالفوها ألف حساب.
رابعاً: ربما يكون هذا الحدث سبباً في تنبيه المسلمين إلى الخطر الذي يتهددهم. فمهما قال الغرب من أن هذه الحرب ليست موجهة ضد الإسلام والمسلمين، فإن الذي يتابع الأخبار يرى أن هذا التحالف الغربي الواسع الذي شمل حتى روسيا، وبلاداً كاستراليا ونيوزيلندا لم يأت مصادفة. ثم الكلام لا عن الإرهاب وحده بل عن ما يسمونه (الأصولية) التي تشمل كل من يأخذ دينه مأخذ الجد ويؤمن به منهاجاً كاملاً للحياة، لا زاوية واحدة من زواياها.
كنت أظن أن هذا الموقف الأمريكي من الحضارات المخالفة لها ربما ساعد في إضعاف موقف العلمانيين عندنا الذين يصورون الغرب على أنه المثل الأعلى للحرية والتسامح. فهاهو الغرب يقول – بوضوح -: إنه لن يتسامح مع ثقافات يراها مهددة لثقافته حتى لو كانت في بلاد يعدونها صديقة مثل السعودية.
ما هذا الكلام الكثير الجاهل السفيه عن الوهابية؟ لا أراه إلا غطاء للكلام عن الإسلام الصحيح المبني على الكتاب والسنة.

س14. هل العمل الإغاثي والمؤسسات الخيرية التي تعمل في الغرب ستتأثر بهذا الحدث؟

ج14. يظهر أن هذه المؤسسات بدأت تتأثر بهذا الحدث، فالغرب يتهم جميع المؤسسات الإسلامية العالمية تقريباً. وللحيلولة دون ذلك يجب علينا أن نقيم جمعيات في الغرب نفسه تكون مستقلة بذاتها وليست تابعة لأي دولة عربية أو إسلامية، بل تكون مدعومة من تلك الدول، وذلك على غرار ما تفعله الجمعيات اليهودية.

س15. المؤسسات الإعلامية العربية سُرّت بأخبار منع الإعلام الأمريكي من نقل رسائل ابن لادن وطنطنت أنه حتى أمريكا تمارس مثل هذا التقييد على الإعلام إذا تجاوز الحدود الحمراء.

ج15. لم يكن هذا منعا رسمياً بل كان رجاء، والرجاء لا يناقض الحرية. فالذي رجته الإدارة الأمريكية من (سي إن إن) هو أن تدرس كلام ابن لادن قبل نشره ؛ لأنه قد يتضمن بزعمهم توجيهات مشفرة. الذي أعرفه أن الحكومة الأمريكية لا تملك حق منع وسائل الإعلام من حق يمنحها إياه الدستور.
فهذا الدستور يتوسع جداً في مفهوم حرية التعبير حتى إن بعض القضاة قضوا بأن حرق العلم الأمريكي هو نوع من هذا التعبير. ليس هنالك – إذن – منع رسمي، ولكن بما أن غالبية الشعب مع الحكومة في حربها لأفغانستان، فقد صار من الصعب على صاحب الرأي المخالف أن يعبر عن رأيه ؛ خشية أن يتهم بالخيانة أو عدم الوطنية. فهذه هي القوة التي تأوي إليها الحكومة الآن في ما تمارس من ضغوط غير رسمية.

الرياض- خاص بالإسلام اليوم

الإثنين 26 شعبان 1422 هـ الموافق 12 نوفمبر 2001 م