الدعوة الإسلامية والغزو الفكري
1,628

مقدمة

       ما من شك في أن الغرب بشقيه الرأسمالي والشيوعي يرمي العالم الإسلامي كل يوم بوابل من سهامه الفكرية في صورة نشرات خبرية وأحاديث إذاعية ، وتمثيليات ومقالات ، وصور ، وكتب ، ومحاضرات جامعية ، ودروس مدرسية وغير ذلك من أشكال الفكر والدعاية .

وما من شك في أن هذه مصيبة كبيرة

ولكن المصيبة الكبرى هي قبولنا نحن لهذا الفكر كله ، وعدم التفرقة بين ما كان منه سماً قاتلاً ، وما كان بلسماً شافياً ولذلك فإن عبارة (الغزو الفكري) لا تصف الواقع وصفاً دقيقاً[1].

إذ لو كنا ننظر إلى الفكر الغربي المسلط علينا على أنه غزو لأعددنا لمواجهته ما استطعنا من قوة ، ولقاومناه بقدر الوسع والطاقة ، ولكن مشكلتنا أننا لا نعتبره غزواً يَستعبِد بل قوة تُنقذ وتُحضر وتُحرر ، ولها فإننا لا نكتفي بما يوجهه الغرب إلينا من قذائف ، بل نسعى للاستزادة من فكره وحضارته..

أ-     بالذهاب إليه في موطنه لنتعلم منه ليس فحسب العلوم النافعة ولكن التصورات الفلفسية والقيم الخلقية والقوانين والعادات والتقاليد .

ب-   وبأن نكون رسله المخلصين إلى بلادنا نبث بين أبنائنا ما تلقياناه عليه ونترجمه إلى لغاتنا الإسلامية ونشرحه وندعوا إليه وندافع عنه فعل المقلد المعجب المشدود الذي لا ينقد ولا يجتهد ولا يُقوّم..

جـ-  وباستجلاب كتبه ودورياته وصحفه ومجلاته .

د-     وبدعوة أبنائه في شكل مدرسين وأساتذة جامعات وخبراء في شتى المجالات.

فإذا صح أن الفكر الغربي يغزونا ، فصحيح أيضاً أن أقوى أدواته  لغزونا هم أناس من بني جلدتنا ، إنهم حكامنا وإداريونا ومدرسونا وكتابنا ومحررو صحفنا وإعلاميونا بل وضباطنا وأطباؤنا ومهندسونا وسائر أفراد الطبقة القائدة في بلادنا إلا من رحم ربك وقليل ما هم. ومع هذا أقول إن حل مشكلة (الغزو الثقافي) الغربي للعالم الإسلامي لا تكون بقطع الوشائج الفكرية بيننا وبين الغرب ، فإن ذلك غير ممكن وغير مفيد . وإنما يكون بدراسـة الحضـارة الغربيـة دراسـة تحليليـة عميقة للتفـرقـة بين ما كـان منها نافـعـاً يؤخـذ أو ضاراً يتـرك بميزان علمي خلقي يقبله كل عاقـل . وبدراسـة الأسـباب العميقة لتيعيتنـا لهذه الحضارة وسـيطـرتها علينا ثم بالتماس الحلـول التي تؤدي إليها تلك الدراسة . ثم بالعزيمة الصادقة القوية على وضع هذه الحلول موضع التنفيذ . وسأحاول في هذا المقال أن أضيف إضافة متواضعة إلى الجهود التي بُذلت في هذا السبيل ، ومن الله العون وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل .

مقتضيات العصر وأهواء العصر :

أنصار الفكر الغربي في بلادنا وكثير من أئمته في بلاده يُصورون الحضارة الغربية على أنها حضارة العصر ، لا يمعنى أنها الحضارة السائدة والمسيطرة فيه ، فذلك أمر حسي لا ينكره إلا مكابر ، ولكن بمعنى أن فكرها وقيمها هي القيم التي يقتضيها العصر .

والإنسان بطبيعه يميل إلى أن يكون ابن عصره ، يلبس كما يلبس أبناء العصر ، ويسكن كما يسكنون ، ويتكلم كما يتكلمون ، ويتعلم كما يتعلمون ما يُعينه على أن يعيش كما يعيشون ، والأمم تميل مثل هذا الميل فلا تريد التخلف عن ركب الأمم المعاصرة لها في مسكن ولا ملبس ولا قوة ولا علم يسهل الحياة ويوسع الآفاق وينير البصائر ، ولكن البون شاسع بين المعاصَرة والإمَّعِيَّة.

إن المفهوم الصحيح للمعَاصَرة كما أتصوره هو أن تكتسب الأمة تلك العلوم والمهارات والأدوات والأشياء التي يقتضيها العصر ، يقتضيها بمعنى أن الأمة التي لا تكتسبها تكون متخلفة بالقياس إلى أمم معاصرة لها في إنتاجها المادي ، وقوتها التسعكرية ، وأثرها الثقافي ، وتكون لذلك أمة ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، بل أن تنشر فكرها وثقافتها .

       فإذا شعرت أمة كالأمة الإسلامية أنها تخلفت عن ركب التاريخ فعزمت على اللحاق به فمن الطبيعي أن تنظر في حال الأمم التي سبقتها لتعرف سر تفوقها فتتعاطااه كي تكون مثلها ، ولكن هذا هو الموطن الذي زلت فيه أقدام كثير من القادة والمفكرين من أبناء الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم التي أرادت أن تحذو حذو الغرب لتلحق به ، وسبب الزلة أنهم حسبوا أن كل ما في الغرب فهو من لوازم العصر ومقتضياته ولم ينظروا نظرة الباحث المتروي الذي يحاول جهده أن يفرق بين مقتضيات العصر وأهواء العصر ، أو بين أسباب التقدم الحقيقية وملابساته العرضية . فكان مثلهم كمثل رجل سبقه آخر في مباراة الجري فقال لكي أكون عداء مثله فلا بد أن اتخذ قميصاً كقميصه وتُباناً كتبانه[2] شكلاً ولوناً وحجماً . لا تستغربوا ما أقول فأنا أصور واقعاً ولا أرسم “كركتيراً) . ألم يروِ لنا الفيلسوف والأديب المصري الشهير الدكتور زكي نجيب محمود عن نفسه أنه مر عليه زمان كان يرى فيه ” أنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بتراً ، وعشنا مع من يعيشون في عصرنا علماً وحضارة ووجهة نظرٍ إلى الإنسان والعالم ، بل إني تمنيت عندئذ أن نأكل ما يأكلون ونجدُّ كما يجدون ونلعب كما يلعبون ونكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون ، على ظن مني آنئذ أن الحضارة وحدة لا تتجزأ ، فإما أن نقبلها من أصحابها   وأصحابها اليوم هم أبناء أوروبا وأمريكا بلا نزاع   وأما أن نرفضها وليس في الأمر خيار بحيث ننتقي جانباً ونترك جانباً كما دعا إلى ذلك الداعون إلى اعتدال” [3].

       إن هذا الأستاذ ليس شاذاً بين مثقفي العالم الإسلامي ، وأقواله هذه ليست فلتات عابرة وإنما هي تعبير عن حال فريق كبير من مثقفي هذه الأمة وعوامّها .

       ولكن أصحيح أن كل ما في الغرب من فكر هو من مقتضيات العصر ، بحيث يصبح الذي يرفضه متخلفاً عن ركـب عصـر ، أو عائشـاً خارج التاريـخ كما يقـولـون ؟ لكي نـجـيب على هذا السـؤال لابد أن نلقى على الفكر الغربي نظرة تحليلية فاحصـة لنـرى مم يتكون هذا الفكر؟ ولنعرف مكوناته لازم لعصرنا وأيها طارئ عليه.

مكونات الحضارة الغربية :

       أن الحضارة الغربية تتكون على وجه الإجمال مما يلي :

أولاً : حقائق رياضية أو طبيعية أو اجتماعية أو نفسية تبثت صحتها بالتجربة الحسية أو البرهان العقل .

ثانياً:  نظريات عملية عن الطبيعة أو الإنسان فرداً وجماعة وهي ثلاثة أنواع:

       أ-   نوع نجح في تفسير كثير من الظواهر ولم نجد ما يدل على بطلانه وإن كنا لا نقطع بصحته .

       ب- نوع ما زال في طور التجربة

       جـ-  نوع ثبت بطلانه .

ثالثاً:  تقنية تكاد تشمل كل جوانب الحياة أدى إليها تطور العلوم الطبيعية والرياضية .

رابعاً: مهارات تقنية وإدارية على تلك العلوم .

خامساً:       تصورات دينية أو فلفسية للوجود ومكانة الإنسان فيه وللقيم الخلقية والجَمالية ولعلاقة الفرد بالمجتمع .

سادساً:       أوضاع سياسية واقتصادية وعلاقات اجتماعية وعادات وتقاليد تسوغها تلك التصورات .

ثامناً:  ولكن الفكر الغربي بشقيه الليبرالي الرأسمالي والأممي الشيوعي ليس مجرد خليط من الأفكار والتصورات المتماثلة القوة والفاعلية ، بل إن منه ما يمكن اعتباره الفكر المسيطر المهيمن على غيره ، والذي يمثل الأصل والإطار التصوري اشامل للفكر الغربي ، ويمثل في ذات الوقت معياره التقويمي للحق والباطل ، وللخير والشر ، لما ينبغي أن يبحث وما ينبغي أن يهمل ، ولِما يقبل وما يرفض ، بل ويمثل الإطار الذي توضع فيه الحقائق العلمية ومن ثم تفسر تفسيراً يتناسب معه وتستنتج منها نتائج توافقه .

       هذا الفكر السائد المهيمن فكر إلحادي مادي فحواه :

       أ-  أن الواقع الموضوعي يتكون في النهاية من لبنات مادية متناهية الصغر في حجمها متحركة في فراغ .

       ب- أن كل ما في الوجود فهو إما هذا اللبنات ، وإما أشياء مركبة منها ، وإما علاقات بينها وما سوى ذلك فلا وجود حقيقي له .

      جـ-  إن طبيعة هذه المركبات سواء كانت أجساماً جامدة أو كائنات حية ، أو جماعات بشرية تفسرها في النهاية طبيعة اللبنات المكونة لها ، هذا على الرأي السائد بين جمهرة المشتغلين بالعلوم الطبيعية  وهنالك رأي لكثير من فلاسفة العلوم يقول أن المركبات تكتسب بحكم تركيبها طبيعة جديدة لا يمكن ردها إلى الأجزاء المكونة.

      د-  أنه ينبغي لذلك أن نلتمس تغسير الظواهر النفسية والاجتماعية والحيوية والفيزيائية في أسباب ضمن هذا الكون المادي ، أي أن الكون المادي كون مكتف بنفسه ، غير محتاج إلى قوة خارجه تخلقه أو  ترسم مساره أو تدير أمره .

      هـ- ولذلك فإن كل عبارة تنطوي على دعوى تخالف في ظاهرها هذا التصور ، فإما أن نحكم ببطلانها وإما أن نُعيد تفسيرها ، بحيث نجد لها مكاناً داخل هذا الإطار الإلحادي المادي .

      و-  وكل ظاهرة يُدَّعي أنها خارقة لقوانين الطبيعة فهي إما كذب أو وهم لا أساس له .

      ز-  وكل تفسير للظواهر النفسية أو الاجتماعية … الخ بأسباب خارج هذا الإطار لا يُعتبر تفسيراً علمياً، أي أن التفسير العلمي هو بالضرورة تفسير إلحادي ، حتى أن كلمة العلم أصبحت في العالم كله تقريباً عَلَماً على هذا التصور الإلحادي للعلم ، ولهذا أمكنت المقابلة بين العلم والدين.

       هذه الفلسفة الإلحادية تمثل كما قلت إطار الفكر الغربي كله ، بما في ذلك الحقائق العلمية ، فحتى هذه توضع داخل هذا الإطار ومن ثم ينظر إليها من خلاله ، وتفسر تفسيراً يتناسب معه ، ولا يستنتج منها إلا النتائج التي توافقه ، إن كثيراً من الناس يعتقدون أن الحقائق الجزئية المشهودة هي وحدها المهمة وأن لها الغلبة على التصورات الفلسفية ، ولكن الحقيقة أن الإطار التصوري الخاطئ يؤثر على نظرة الإنسان إلى الحقائق الجزئية ، ويحجب عنه مدلولاتها الحقيقية .

(ولقد أتوا على القريةِ التي أُمْطِرت مطَرَ السَّوءِ أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجُون نُشُوراً) [الفرقان:40]

      أفلم يكونوا يرونها ؟ بل كانوا يرونها ، وكيف لا يرى الإنسان بلداً كاملاً وهو يمر عليه ذاهبا وآيباً؟ ولكنهم لم يستنتجوا من رؤيتهم لها العبرة التي ينبغي أن تُستخلص لإن تصورهم المُنكِر للبعث يمنعهم من هذا الاستنتاج ، ويقف بهم عند حدود الظواهر .

(يعلمون ظاهراً من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرةِ هم غافلون) [الروم:7] .

       المثقفون في الغرب كله بشطريه  –  إلا فئة قليلة  –  متأثرون على درجات متفاوتة بهذه الفلسفة الإلهية ، فمنهم من يقبلها قبلاو كاملا ويعلن كفره بالله وبالدين في صراحة ، ومنهم من يعتبرها منهجا علميا ينتهجه إذا دخل معمله أو كتب بحثه ، أو ناقش زملاءه ، ثم يخلعه إذا ذهب لكنيسته أو بيعته ، ومنهم من يقبله حقيقة ولكنه ينتمى إلى الدين اسماَ لأنه يفسر كل المفاهيم الدينية تفسيراَ لا يخرجُ عن هذا الإطار .

       أنا لا أُنكِر أن من المفكرين الغربيين من ينكر الفلسفة المادية وينتقدها ، ولكني أقول ما كل من ينكر الفسلفة المادية فهو مؤمن بل إن من أشد ا‘داء الفلسفة المادية قوم ملحدون ، والذين ينكرونها على أساس ديني ينتمون إلى أديان شركية خرافية.

       هذه هي أهم مكونات الحضارة الغربية … فماذا نأخذ من هذه الحضارة  وماذا ندع ؟

       يرى فريق من المثقفين في العالم الإسلامي – كما  رأينا من قبل-  أننا ينبغي أن نأخذ هذه الحضارة كلها بما في ذلك إطارها الفلسفي ، ونطرح  كل ما خالفها من دين وتراث وعادات وتقاليد، لماذا ؟ لأن إطارها الفسلفي هو الذي يمثل فلسفة العصر ، لا يمعنى أن التصور السائد بين جمهرة المشتغلين في الغرب بالعلوم الطبيعية أو البشرية وفلسفتها ، فذلك أمر هين وقد يكون حقاَ ، ولكن بمعنى أنها التصور الذي يقتضيه العصر والذي يعتبر متخلفا عن عصره كل من لا يقول به .

       ولكن أصحيح أن هذا التصور الإلحادي لازمة العصر ؟

       إن هذا التصور ليس جديداَ وإذا ثبت أنه ليس جديداَ فقد ثبت أنه ليس مما أنتجه عصرنا ، وإنما هو مما أخذه بعض أبناء هذا العصر عن أسلافهم الملحدين ثم روجوا له وألبسوه ثوب العلمية والمعاصرة .

       ودليلنا على عدم جدته أن الناس منذ قديم العصور منقسمون في تصوراتهم للوجود إلى فريقين : فريق يرى الكون المادي فقيراَ غير مُكتَفٍ بنفسه ، شاهداً على خالقه ، الذي ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وأن هذا الكون المرئي ليس كل ما خلق هذا الخالق الحكيم ، فإن له مخلوقات أخرى منها ملائكة ومنها جن ، ومنه جّنة تختلف طبيعة الأشياء  فيها عن تلك التي نعرفها في عالمنا هذا وإن اتحدت الأسماء .

       وفريق  يرى أنه لا حق إلا ما أدرك بالحس المباشر وأن الكون غنيٌ بذاته ، وأنه لا خالق ولا بعث ولا ملائكة ولا جن .

       وفريق ثالث يتردد بين هذين الموقفين اللذين لا يمكن الجمع بينهما فيميل هنا تارة وهنالك تارة أخرى فتأتي أقواله متناقضة ومواقفه متعارضة .

       لنا على على قِدم هذا التصور الإلحادي أدلة كثيرة ، نكتفي ببعض ما رواه لنا القرآن الكريم من أقوال الأمم الكافرة ، وببعض ما قاله أصحاب الفلسفة المادية من فلاسفة اليونان وببعض أقوال الذين تأثروا بهؤلاء ممن سُموا بفلاسفة الإسلام .

      يروي لنا القرآن الكريم أن الكفار من بني إسرائيل بنوا كفرهم على أساس أنهم لم يروا الله الذي يحدثهم عنه موسى :

(وإذ قلتم يا موسى لن نُؤمِنَ لك حتى نرى الله جَهْرَةَ) [البقرة:55]

وكرر بعض كفار العرب نفس القول فاشترطوا لإيمانهم أن يأتي الرسول بالله والملائكة قبيلاَ

(وقال الذين لا يرجون لقاءَنا لولا أُنزِلَ علينا الملائكةُ أو نرى ربنا، لَقَدِ استكبروا في أنفسهم وعَتَوْ عُتُواَ كبيراً) [الفرقان:21]

(أو تُسقِطَ السماءَ كما زعمتَ عَلَينا كِسَفاَ أو تَأْتِي بالله والملائكة قبيلاً) [الإسراء:92] .

واشترطوا لإيمانهم بالبعث أن يُبعث من مات من آبائهم كي يروهم عيانا :

(وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بينات ما كانَ حُجَّتَهُم إلا أن قالوا ائْتُوا بئَابآئِنَا إن كنتم صادقين) [الجاثية:25] .

وفي مجال الزعم بأن الكون مكتف بنفسه غير محتاج إلى قوة من خارجه قالوا :

(وقالوا ما هي إلا حياتُنَا الدنيا نموتُ ونحيا وما يُهلكُنآ إلا الدهر) [الجاثية:24] .

وكذلك فسروا حوادث التاريخ بأنه مصادفات من فعل الدهر لا أقدار خالق حكيم .

(وما أرسلنا في قرية من نبيٍ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون .  ثم بدلنا مكان السيئةِ الحسنةَ حتى عَفَوا وقالوا قد مَسَّ ءَابآءَنا الضرآء والسرآءُ فأخذناهم بَغْتَةُ وهم لا يشعرون) [الأعراف:94-96] .

       قال ابن كثير :  ” وقالوا قد مسنا البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات …”[4]

       وأما الفكر اليوناني الذي يمثل أقوى جذور الفكر الغربي المعاصر فقد كان فكراَ شركياَ إلحادياَ وقد وجدت في هذا الفكر جذور الفلسفة المادية الإلحادية في شكل المذهب الذري الذي قال به ليوسيبس في حوالي منتصف القرن الخامس قبل المبلاد ، كما قال به من بعده واشتهر به ديمقريطس ، خلاصة هذه الفلسفة أن كل الموجودات تتكون من ذرات مادية صلدة لا تنقسم ، وأن هذه الذرات أزلية في ذاتها وفي حركاتها وأنه لا خالق لها ومدبر لأمرها . وأرسطو الذي انتقد هذا المذهب كان هو نفسه معتقداَ بأزلية الكون وأزلية الحركة وهو اعتقاد يتنافي مع وجود الخالق ويتسق اتساقاً تاماً مع المادية الإلحادية.

       وكما أن بعض من سموا بفلاسفة الإسلام من أمثال ابن سينا تأثروا بالفلسفة الأرسطية وقالوا كما قال بأزلية العالم ، فقد تأثرت بعض الفرق الإسلامية بالمذهب الذرى فقالوا إن الكون مكون من ذرات وأن الخَلْقَ إنما هو جمع وتفريق لهذه الذرات . ولم يقتصر تأثر المسلمين بالفلسفة المادية الإلحادية على هذا فقط بل إن بعض من سموا بفلاسفة الإسلام كانوا يحاولون جهدهم أن يفسروا كل شيء إسلامي في هذا الإطار الإلحادي اليوناني ، فقالوا لذلك إن الملائكة هي قوى الخير والجن قوى الشر ، والله هو العقل الفعّال والوحي قوى نفسانية إلى غير ذلك من المسائل التي كفّرهم بسببها علماء الإسلام .

       الفريق الثاني من المتأثرين بهذا التصور هو فريق المنتسبين إلى الإسلام صدقاً أو نفاقاً ، والذين يتصورون الوجود ، بل ويحاولون تفسير الإسلام ضمن هذا الإطار الإلحادي كما فعل أسلافهم ممن سموا بفلاسفة الإسلام – هؤلاء في نظري أخطر من الفريق الأول ، فالفريق الأول عدو سافر ، وهذا عدو مستتر . فنقل الإلحاد إلى جماهير المسلمين بوساطتهم أيسر وتلبيسهم عليهم أشد. ولا يستغربن أحد ما أقول،  فإن مؤرخي الفكر الغربي يَرُدون جذور الإلحاد إلى فلسفات “ديكارت” و”كانت” رغم أنهما كانا يؤمنان بوجود الله ، ولكن العبرة ليست بما يؤمن به الكاتب في داخل نفسه بل بما يدل عليه قوله وما يلزم عن هذا القول.

       أنا لا أريد أن أقول إن كل ما يفسر الإسلام ضمن هذا الإطار ملحد حقاً ، مظهر للإسلام – إن أظهره  –  نفاقاً ، ذلك لأنني أظن أن الكثيرين منهم يقبلون هذا الإطار على أنه الإطار العلمي وهم حين نحسن الظن بهم يريدون أن يُبينوا أن لا تعارض بين الإسلام والمنهج العلمي والحياة المعاصرة ، ولذلك فإنهم يقدمون تفسيراتهم هذه على أنها التفسير الذي يقتضيه العلم وتقتضيه مسايرة الإسلام لظروف العصر لا على أنه التفسير الإلحادي للدين وهم في هذا سالكون منهج كثير من المفكرين المسيحيين مشابهون لهم أو متَشبهون بهم .

       هذا الفريق نوعان منهم  من قبل هذا الإطـار لا في مجال التشـريع العملي فحسب بل وفي مجال العقيدة أيضا ، ومنهم من قبل لوازمه في مجال التشريع ، وإن لم يقبلها في محال العقيدة أو ظل على الأقل صامتا عنها في هذا المجال .

ولبيان خطر هذا التصور في مجال العقيدة وشناعته أقول : 

       إن الإيمان بالله واحداُ لا شريك له هو لُب الإسلام وعماده ، فهو الإطار الذي يحوي كل تفاصيله ، وهو الأساس الذي تبنى عليه كل فروعه ، وهو المقدمة التي تستخلص منها كل نتائجه . والعلم بالله تعالى هو أشرف العلوم وأنفعها لأنه كلما ازداد علم الإنسان بالله ازداد إيمانه به وثقته فيه توكله عليه وحبه له وخوفه منه ، ورجاؤه وشكره وطاعته وسائر الحالات والصفات المعبرة عن إخلاص العبودية له تعالى . وقد تفضل الله تعالى فعرفنا بنفسه في كتابه المنزل ، وعلى لسان نبيه المرسل . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بالله وأشدهم له خشية ، وكان أصحابه من بعده أعرَف هذه الأمة بربها وأشدها له خشية. والطريقة التي سار عليها هؤلاء الأصحاب في فهم ما قاله الله تعالى عن نفسه ، وما قاله عنه رسوله أن يُثبتوا له كل صفة أثبتها لنفسه في القرآن أو السنة على أنها صفة حقيفية وأن ينفوا عنه كل ما نفاه عن نفسه.  فإذا قال تعالى إنه سميع بصير حي قيوم ، أثبتوا له هذه الصفات، وإذا قال إنه تعالى يُحب ويرضى ويكره ويغضب قالوا عنه ما قال عن نفسه، وإذا أثبت لنفسه وجهاً ويداً قالوا إن له وجهاُ ويداُ، وإن قال (الرحمن على العرش استوى) أثبتوا لله صفة الإستواء وآمنوا بأن العرش والكرسي من مخلوقاته، ولم يُمثلوا شيئاً من هذه الصفات الإلهية بصفات المخلوقين لأنهم يعلمون أن الله ليس كمثله شيء ، ولم ينفوها عنه أو يؤولوها تأويلاً يُبطل حقيقتها لأنهم يعلمون أن ذاتاً بلا صفات حقيقية هي وهم لا حقيقة له. على منهج هؤلاء الصحابة الكرام سار من جاء بعدهم من كبار التابعين وتابعيهم وسائر أئمة أهل السنة والجماعة . ولكن هذا العلم بالله تعالى الذي هو أشرف العلوم وأهمها لا يكاد اليوم يُوجد إلا عند قلة من الناس وذلك لأسباب تاريخية منها تأثر المسلمين بعقائد ومذاهب جاهلية أهمها الفلسفة اليونانية المادية . لقد  أثرت هذه الفلسفة في علم الكلام، وصار علم الكلام  – مع الأسف – هو المختص بموضوع العقيدة وصفات الخالق تعالى، ولكن هذا الاتجاه المنحرف يُعضّد اليوم بأسباب جديدة هي تأثر المسلمين المتزايد بالتصورات الغربية المادية .

       لقد كانت المعرفة الصحيحة بالخالق تعالى تقول إنه هو الحق ، وكانت تقول إن أصدق كلمة قالها الشاعر ” ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطل ” وإذا كان الله تعالى هو الحق ، بإطلاق ، فإذا أثبت نفسه صفة كانت في حقه صفة حقيقية يتصف بها على وجه الكمال اللائق به سبحانه ، وإذا اتصف المخلوق بهذه الصفة كانت في حقه أيضا صفة حقيقية على وجه النقص اللائق بالمخلوق . فالله تعالى عليم حكيم رحيم سميع بصير والمخلوق موصوف بالعلم والحكمة والرحمة والسمع والبصر ، فالأوصاف في الحالين أوصاف حقيقية لا مجازية ولكنها في حق الله تعالى أحق لأنه هو الحق بإطلاق ، وهي في حقه أوصاف كمال لا يماثلها ولا يدانيها أوصاف المخلوقين .

       ثم تغير الحال ، فاعتبر الناس -بلسان الحال إن يكن يكن بلسان المقال- وجود المخلوقات المشهودة هي الوجود الحقيقي ، فصفاتها هي الصفات الحقيقية ، وما لم يكن هاديا مشهودا فهو إلى الفكرة الذهنية أقرب منه إلى الحقيقة الواقعية ، ونتج عن هذا التصور اتجاهان منحرفان :

       اتجاه يقول بما أن الصفات على الحقيقة إنما هي صفات الأجسام المشهودة فلا بد أن يكون الله جسماً، وإذا نسـب لنفسـه يـداً فلا بد أن تكـون كيدنـا لحمـاً ودمـاً، وإذا قـال إنـه سـميع بصير فـلا بد أنه يسـمـع بأذنـين مثل آذاننا ويرى بعينين مثل عيوننا، تعالى الله عن قولهم علـوا كبيراً، هـؤلاء هـم الذين سُـموا في تاريـخ الإسـلام بالمُشَبِهة والمُجَسِمَة.

       واتجـاه يـقـول بمـا أن الصفـات على الحقيقـة إنـما هـي صـفـات الأجســام المشـهـودة ، وبما ان الله تـعـالـى ليس كهذه فإنه لا يتصف بها حقيقة بل مجازاً ، ولذلك فقد رفض الغلاة منهم أن يُثبتوا لله تعالى أي صفة من الصفات فرفضوا حتى القول بأنه موجود، لأن هذا بزعمهم تشبيه له بالمخلوقات، وهؤلاء هم الذين عُرفوا في تاريخ الإسلام بالجهمية .

       ولذلك فإن أهل السنة حين يبينون عقيدتهم يميزون أنفسهم عن هذين المذهبين الضالين ، فيقولون إنهم يثبتون لله ما أثبت لنفسه من غير تشبيه ولا تمثيل (وهو المذهب الأول) ولا تحريف ولا تعطيل (وهو المذهب الثاني) .

       وقد أثر هذا الاتجاه الأخير في كثير من الفرق الإسلامية حتى تلك التي تنتسب منها إلى أهل السنة والجماعة فلجأوا إلى مثل تأويلهم التعطيلي لبعض الصفات التي ظنوها لا تكون حقيقة إلا في حق المخلوقين، فقالوا مثلاً عن قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) أي استولى فكان رد أئمة أهل السنة عليهم أولا أن الاستواء لا يعني الاستيلاء في اللغة فالتفسير خطأ إذن من حيث اللغة ، وثانيا على فرض أنه الاستيلاء فهل تقولون إن الله تعالى استوى كاستيلاء البشر ؟ إن قلتم  نعم صرتم مشهبة وإن قلتم استولى استيلاء لا كاستيلاء البشر؟  فلماذا لا تقولون استوى لا كاستواء البشر كما قال سلف الأمة الراشدين .

       لكن هذا المذهب التعطيلي يعود إلى الظـهـور من جديد فينتشـر بين كثير من المتدينين من المسلمين وغيرهم ، وما ذلك إلا لأنه يجد سنداً من التصور المادي المعاصر ، هذا التصور الذي يقول كما رأينا سابقا إن الوجود الحقيقي إنما هو وجود الذارت المادية ومركباتها ، ومن البديهي أنه لا مجال للخالق في نطاق هذا التصور ، إذا قلنا إن صفاته صفات حقيقية ، لابد إذن من تأويل هذه الصفات واعتبارها مجازاً أو رموزاً ولكن هذا معناه أن الخالق تعالى يكون مجرد فكرة في الأذهان لا وجود حقيقي لها في الأعيان . فلا يوصف لذلك بصفة ثبوتية فيقال إنه كذا وكذا ، بل تكون كل صفاته سـلـوبا فيقال أنه ليس كذا وليس كذا ، هكذا قالت الجهمية في الماضي ، وهذا يقـول رجـل كالأسـتاذ محمد أسـد : إنه يقول عن الله تعالى ما ترجمته “… إننا لا نستطيع أن نتخيله ” وهذا صحيح ، إذا كان المقصود به أن تكون له صورة كيفية في أذهاننا ، ثم يقول “كل ما نستطيع أن نعرفه عنه أنه ليس كذا وكذا”[5].  ثم يمضي لذلك فيؤول صفاته الثبوتية كالاستواء والسمع والبصر بل ويُؤول السماوات والكرسي .

       وما يقال عن الله تعالى يقال عن عالم الغيب كله تقريبا . إن المحاولة دائما هي تأويل هذه الحقائق بحيث تصبح قابلة لأن تكون جزءاً من الأطار المادي.  يقول الشيخ محمد عبد ه عن الملائكة في كلام طويل في تفسيره : “فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده فأنما قوامه بروح إلهي سمى في لسان الشرع ملكاً. ، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمى هذه المعاني القوى الطبيعية ، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرا هو مناطها ، وبه قوامه ونظامها ، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكاً وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموساً طبيعياً ، لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع ، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات”[6]  ثم انتقد تعريف الملائكة بأنها أجسام نورانية قابلة للتشكل بأن النور وحده لا قوام له يكون به شخصاً ممتازاً بدون أن يقوم بجرم آخر،  وأن الشيء الواحد لا يمكن أن يتقلب في أشكال من الصور مختلفة[7].

       يقول تلميذه الأستاذ رشيد رضا  – عليه رحمة الله –

       “هذا ما كتبه شيخنا في توضيح كلامه في تقريب ما يفهمه علماء الكائنات من لفظ القوى إلى ما يفهمه علماء الشرع من لفظ الملائكة”[8]

       وأقول لا بأس على الداعية إلى الإسلام أن يقرب معاني ألفاظه إلى الناس بالمألوف من ألفاظهم ومعارفهم ، ولكن هذا شيء وتفسير حقائق الإسلام بما يوافق أجواء العصر شيء آخر . وما فعله الأستاذ محمد عبده هنا هو من القبيل الثاني لا الأول، والذي يغرى الداعية الحديث بالوقوع في مثل هذا التفسير هو أن كثيرين من معاصرينا يقبلونه ويرتاحون إليه ويعتبرونه التفسير الذي يقتضيه العقل ، ولكنهم إنما يقولون هذا لأنهم متأثرون بثقافة عصرهم، لا لأن عقولهم أكبر من الأسلاف الذي قبلوا حقائق الغيب كما وصفها الله تعالى . إن كل ما يخالف العقل باطل لا محالة ، ولكن ما العقل؟ إن كثيرا من المفكرين يسلمون بمقدمات باطلة في تصورهم للكون ، ثم يعتقدون أن المعقول هو ما كان موافقا لتلك المقدمات فيخلطون بين الممكن عقلاً والممكن في حدود إطارهم التصوري ، بل إن من الخطأ الذي نبه عليه كثير من العماء الغربيين أنفسهم الظن بأن الممكن عقلاً يطابق الممكن في حدود العلم التجريبي .

       هذا خطأ ، لأن دائرة الممكن عقلاً أوسع من دائرة الممكن تفسيره في حدود العلم التجريبي ، إذ لو كان الأمر كذلك لصح أن نقول إن كل ما لا يمكننا تفسيره في حدود علمنا التجريبي ، فهو وهم لا حقيقة له ، ولو آمن العلماء بهذا المبدأ لتوقف العلم عن التقدم منذ زمن طويل ، ولكن القحيقة أن ما لم يمكن تفسيره في حدود العلم بالأمس أمكن تفسيره اليوم وما لا يمكن تفسيره اليوم سيمكن غدا بإذن الله ، وذلك لأن دائرة العلم في اتساع دائم، ولكن العلم التجريبي مهما اتسعت دائرته فلن يستطيع تفسير بعض الحقائق، لا لأن تفسيرها غير ممكن ، ولا لأنها مخالفة للعقل ، ولكن لأنها تقع خارج المجال الذي حدده هذا العلم لنفسه ، وكونها خارج المجال لا يعني أنها أوهام أو دعاوى لا دليل عليها بل إن عليها لأدلةً تتناسب مع طبيعتها ، ولكن هذا ليس مجال الإضافة في هذا الموضوع .

       من الخطأ الشائع تسمية أصحاب هذه المدرسة بالعقلانيين إذ ما كل من ادعى الاحتكام إلى العقل بعاقل  وكيف يكون عقلانياً من يحد العقل بحدود الفلسفة المادية أو بحدود الممكن تفسير في حدو العلم التجريبي الذي بلغه الناس في زمانه؟ لو كان هؤلاء عقلانيين لصح أن نصف بالعقلانية أولئك الذين أنكروا إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة ، لقد أنكروا أمراً لا نعتبره اليوم مستغرباً حتى بوسائلنا المادية ، ولكنهم أنكروه لأن علمهم ضاق فحصر الممكن عقلا في المألوف لديهم من وسائل الانتقال ، وكذلك يفعل اصحاب هذه المدرسة المدرسة اليوم ، فيضيقون  بكل أمر جاء به الذين لا يجدون له  –  إن أخذوه على ظاهره –  تفسيرا في حدود معارفهم فيظنون هذا الظاهر مخالفا للعقل فيؤولونه تأويلات تجعله مناسبا لما حسبوه متقضى العقل  وإنما هو مقتضى الأُلف والعادة ، ولذلك فإنهم يضيقون بكل ما ورد في القرآن والسنة من أحداث خارقة لمعتاد الناس ويؤولونها تأويلا يجعلها أمرا عاديا ، فالطير الأبابيل هي الجراثيم[9]، ونتق الجبل فوق بني إسرائيل إنما كان زلزالاً وانفلاق البحر لموسى كان جزراً[10].

       والنوع الثاني هي الذي لا يهتم بأمثال هذه التصورات الأساسية سواء كانت إسلامية صحيحة أو غربية باطلة ، ويعتبرها كلها لقصر نظره من الكلام النظري الذي لا يؤثر في الواقع العملي ، ولكنه مع ذلك متأثر بنتائج التصور الإلحادي في تصوراته الفكرية وتصرفاته العملية.  فهو لا ينظر إلى الفكر الغربي في مجال الاقتصاد أو السياسة أو القانون … الخ على أنه تقاليد حضارية معينة قد تخطئ وقد تصيب، ولكنه يعطيه صفة الإطلاق فبحسب أن اقتصادهم هو الاقتصاد وقانونهم هو القانون ، وإن لم يقل الاقتصاد المطلق أو القانون المطلق فهو يراه على الأقل الاقتصاد أو القانون الذي يقتضيه العصر وتقتضيه الحضارة الإنسانية، ولذلك فإن كل ما في الإسلام مما يخالف التصور الإلحادي ينبغي أن يعاد تفسيره ، بحيث يصبح موافقا لمواصفات الحضارة الغربية ، والغريب أنهم يسمون كل هذا اجتـهـاداً وتجديداً ، أغـريب هو ؟ كـلا فإن هذا هو المنهج الذي تسلكـه كل الانحرافـات فكرية كانت أو حقيقية ، إنها تسمى أباطيلها بأسماء براقة لا تعبر عن حقيقيتها ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم  ” ليشربنَّ ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها”[11]

       ألم يقل الله تعالى عن المنافقين :

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون:4]

       ألم يقل عن أعداء أنبياء الله :

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [الأنعام:112]

       هذه هي النظرة التي جعلت بعضهم يتحرجون وبعضهم ينكرون أشياء مثل تعدد الزوجات ، ورجم الزاني المحصن، و قتل المرتد ، وحجاب المرأة ، وإعفاء اللحي ، وتحريم المعازف والربا واختلاط النساء بالرجال .

       وسيقت للدفاع عن هذا الإنكار حجج وتّعٍلاّت من أوهي وأسخف ما يتصوره الإنسان،  ولا عجب فإن الداعي إلى الإنكار ليس هو هذه الحجج وإنما معرفة المنكرين بأن هذه الأشياء مما يستبشعه العقل الغربي المعاصر، واقتناعهم بأن كل ما يستبشعه هذا العقل فهو الُمُستبشَع لأنه إنما ُينكر ويُستبشع ما كان مخالفا للعلم معرقلا للحضارة الإنسانية .

       ولم يقتصر أثر الفكر الغربي على التصورات الاعتقادية والآراء التشريعية وإنما تعداه إلى الأذواق والظاهر فالزي القومي في كثير من بلاد ا لعالم الإسلامي أصبح دليل التخلف سيما فيما يتعلق بالنساء، وكل ما يفعله الغربيون رجالا ونساء  بشعورهم جميل وكل ما نفعله نحن إن لم نقلدهم قبيح ، وإذا احتفلوا برأس السنة الميلادية فينبغي أن نحتفل وأن نحتلف بطريقتهم ، وإذا جعلوا لأبنائهم أعياد ميلاد فكذلك ينبغي أن نفعل ، إلى آخر ما لايكاد يُحصى من أنواع التشبيه .

       إن التقليد في المسائل الشكلية أقل خطراً ما في ذلك شك، ولكنه ربما كان أدل على التبعية العمياء لأنه إن  اختلفت للمتابعة في التصورات والتشريعات تأويلات ومسوغات فكرية ، فلا يمكن أن يوجد للتقليد في المسائل المظهرية مسوغ  غير الافتنان بالمقلّد، واعتباره المعيار لما ينبغي أن يُفعل وما ينبغي أن يُترك . ولكن التقليد في المظاهر له آثار خطرة قد لا يلتفت إليها كثير من الناس، إذ من الثابت أن هنالك علاقة بين المظهر والمخبر، وعليه فالذي يوافق طائقة معينة في مظر تمتاز به ويُعد شعاراً لها خليق أن يجد في نفسه ميلاً لموافقتها في مخبرها ، ثم أن المظاهر كثيرا ما تكون تعبيراً طبيعياً عن حالات نفسية ومبادئ تصورية ، فالتشبه بأصحاب هذه الحالات والتصورات في مظهرهم ، يساعد على إحداث تلك الحالات والتصورات في المُقلّد .

       إن كثيرا من مواقفنا السياسية لها جذور فكرية في هذه التبعية للثقافة أو الحضارة الغربية ، فاتخاذ الشيوعيين وكثير من اليساريين مواثف مؤيدة لموقف المعسكر الشيوعي في القضايا العالمية حتى ما كان منها خاصا بالعالم الإسلامي هو تعبير عن موقف حضاري قبل أن يكون موقفا سياسياً.

       لكن هذه التبعية الحضارية ليست قاصرة على الشيوعيين ، فالتبعية الحضارية للمعسكر الغربي نتج عنها نفس الآثار السياسية ، فصلح كامب ديفيد مثلا سبقه صلح مع الحضارة الغربية ، سبقته كتابات لمفكرين مؤثرين كبار بأن هذه الدول الغربية هي المثل الذي ينبغي أن يحتذي ، فكل ما كان أقرب إليها كان أكثر حضارة وأجدر بالاحترام والتوقير، وبما أن إسرائيل هي قطعة من الغرب في البلاد العربية، وبما أن البلاد العربية متخلفة بالقياس إليها فإن معاداتها معاداة للحضارة الغربية ودليل على التخلف .

       إن الافتتان بالحضارة الغربية في تصوراتها الاعتقادية وأحكامها التشريعية وقيمها الخُلقية ومظاهرها الذوقية لم ينتج عنه مواقف سياسية موالية للغرب فقط وإنما نتج عنه محاولة لإعادة صياغة المجتمعات الإسلامية كلها في قوالب غربية ، في تركيبها الاجتماعي ، ونظمها القانونية ، وأوضاعها الاقتصادية ، وبرامجها التعليمية  ووسائلها الإعلامية  على اعتقاد بأن هذه الصياغة شرط ضروري لنهضة الأمم الإسلامية وتحويلها من مرحلة التخلف والرجعية إلى مرحلة التقدم والمعاصرة .

ما هي أسباب هذه التبعية :

       إن الإنسان بطبعه يمال إلى حب الموافقة والتقليد ولذلك قيل إن الناس كأسراب القطا، إن الإنسان مخلوق اجتماعي فأكبر عقاب له أن تعزله عن المجتمع في سجن انفرادي ، ولكي يعيش الفرد مع الناس لابد أن يدفع ثمن ذلك موافقة لهم في أفكارهم وعاداتهم ومظاهر حياتهم لأن المجتمع يقسو على من يشذ عنه في هذه الأمور .

       والموافقة هذه أمر لا بد منه ، وهي ليس شراً في ذاتها وأنما تكون شراً حين تسود في المجتمع عقيدة باطلة أو فكرة خاطئة أو عادة ضارة وبطلب من الفرد أن يتابع المجتمع فيها. هنا يُمتحن الإنسان، فالكثرة من الناس تخشى المفارقة والتميز وترضى بالمتابعة وإن تبين لها الخطأ ، والقلة من الرجال والنساء التي تمتاز بقوة العزيمة والشجاعة وحب الحق هي وحدها التي تصمد وتقوى على التميز والمفارقة، وإذا ما تميزت وفارقت تبعها غيرها ممن هو أقل منها جرأة ، وتبع هؤلاء غيرهم وهكذا إلى أن يحدث في المجتمع  – إن حدث – تيار جديد لا يلبث أن يكون هوالاتجاه الاجتماعي المقبول .

       والمجتمع ليس كوماً من الأفراد متماثلي الأهمية والأثر الاجتماعي ، ولكنه نظامٌ بعض الطبقات فيه أهم من بعض ، وأشد أثرا على غيرها ، فإذا تغيرت هذه أو سنت للناس سنة جديدة تبعها غيرها. هذه الطبقات القائدة تشمل طبقة فادة الفكر ، وطبقة الحكام ، وطبقة الأثرياء ، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم  لم يكن في مبدأ بعثته يوجه الدعوة إلى الأفراد البسطاء فقط وإنما كان يعطي اهتماماً خاصا لرؤساء القبائل ، وفي المدينة وجه رسائله إلى الملوك والرؤساء، على أساس أن إسلام هؤلاء يقود إلى إسلام أتباعهم، ولذلك فإن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون نبيه الخاتم من قريش القبيلة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم “الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم”[12]، وفي رواية “الناس تبع لقريش في الخير والشر”[13].

       سألت امرأة الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه “ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤوكم عليه ما استقامت أئمتكم.  قالت : وما الأئمة؟ قال : أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت : بلى ، قال فهم أولئك على الناس”[14]

       الطبقة القائدة قد ترى رأياً أو تسن عادة لأنها توافق مصلحتها وهواها ، وقد ترى الرأي لأنه حق وتسن العادة لأنها تراها حسنة ، ثم يأتي كثير من أفراد الطبقات التابعة فيقلدونها في الرأي أو العادة لمجرد أنها قالت به أو سنته و من غير نظر في صواب الرأي وخطئه وحسن العادة أو سوئها .

       ويبدو أن ما يصدق على الأفراد في نطاق المجتمع القطري أو القومي الواحد يصدق على الأقطار في نطاق المجتمع الدولي ، سيما في عصر كعصرنا تقاربت فيه المسافات وتوثقت الصلات ، وتشابكت المصالح ، واشتد لذلك التأثير المتبادل .

       الدول أيضا منها دول قائدة ودول مقودة ، فالدولة الأقوى فكرا في معرفة أمور الدنيا والتصرف فيها ، والأكثر ثراء ، والأشد قوة وبأسا ، وهي الدولة القائدة والرائدة التي يحتاج غيرها إلى فكرها وتجربتها ومالها ومنتجاتها ، وما كان أقل منها في هذه الجوانب فهي الدول التابعة .

       فإذا رأت الدول القائـدة رأياً ، أو اتخذت في حياتهـا طريقة ، لأي سبب يخصها ، قلدتها الدول التابعة تقليداً أعمى.

       هذا على فرض أن قادة الدول القائدة بقوا في بلادهم ، فكيف إذا نتقلوا إلى البلاد الضعيفة حكاماً ورؤساء، وقادة فكر، كما حدث في العالم الإسلامي في عهود الاستعمار.  أو خبراء في شتى نواحي الحياة أو أساتذة أو رجال أعمال كما هو الحال في عالمنا الإسلامي الآن .

       إنه حينئذ تجتمع لهؤلاء القادة الوافدين قوتان ، قوة الدولة القائدة التي يمثلونه ، وقوة المركز القيادي الذي يحتلونه في داخل الدولة الضعيفة .

       وبما أن الإنسان لا ينفق إلا مما يملك فإن هذه الدول الغربية القائدة إنما تنقل إلينا ما عندها ، معتقدة أن موقفها هو الموقف الطبيعي الذي تُقاس به الأشياء الأخرى ، فدينها هو الدين، واقتصادها هو الاقتصاد، فلسفتها هي الفلسفة، ومصلحتها هي المصلحة، فما عندها يُعرّف بالألف واللام، وأما ما عند غيرها فلا بد من تعريفه بالإضافة ، فيقال دين إسلامي أو بوذي واقتصاد إسلامي وفلسفة عربية أو صينية أو هندية وكذلك قل عن لغتهم وزيهم وفنهم المعماري وعاداتهم الاجتماعية .

       أعود فأقول إن تبعية الفرد للمجتمع سيما إذا كان فردا من الطبقة الضعيفة وتبعية الأمة لجماعة الأمم سيما إذا كانت أمة ضعيفة أقول إن هذا سنة اجتماعية لا يمكن التغلب عليها بمجرد الأماني .

ما الحل إذن ؟

       إذا كان التحليل الذي أوجزناه سابقا صحيحا ومقبولا ، فإن الحل النهائي الحاسم هو أن يزول التناقض بين الإنتماء إلى الإسلام والإنتماء لمجموعة الدول الضعيفة ، وهذا يكون إما بأن تقوى الدول الإسلامية أو بأن تسلم الدول القوية ، وكلا الأمرين ممكن، بل إن كل واحد منهما يساعد على الآخر . فإذا قويت الأمم الإسلامية احترمتها الشعوب الأخرى واحترمت تبعا لذلك دينها ، أما الآن فإن حال الأمم الإسلامية يفتن الناس عن الإسلام ، وتلك مصيبة علمنا القرآن، الاستعاذة منها :

(ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا)  [الممتحنة:5] .

       وإذاأسلمت الدول القوية القائدة شجعنا ذلك على العودة إلى الإسلام .

       لكن دعونا الآن نحصر أنفسنا في أنفسنا ، ما الحل بالنسبة لنا؟ قلنا أن الحل النهائي الحاسم هو أن نكون أمة قائدة بالوصف الذي ذكرناه آنفا ، ولكن كيف نكون أمة قائدة ومسلمة في نفس الوقت إذا كان تحليلنا يدل على أن ضُعفنا الحالي يغرينا بالتخلي عن ديننا وتقليد غيرنا ؟

       والحل في سنة اجتماعية أخرى ، وهي أن بعض الأفراد في المجتمع  – وهم في الغالب من أفراد الطبقات الضعيفة-  قد يشذون عن قاعدة التبعية والموافقة إذا ما توفرت لهم الأسباب، إن لديهم الاستعداد للاستمساك بالحق متى لاح لهم ، والمل لاحقاقه مهما كلفهم من جهد وسخرية اجتماعية ، حتى لو كلفهم أرواحهم. إذا عرف هؤلاء الحق واستمسكوا به وأعلنوه وصبروا على الأذى الاجتماعي في سبيله، فإنهم يوشك أن يكونوا طبقة قائدة جديدة بفكرها القوى العملي الحركي، وإذا صاروا كذلك أسرع تأثيرهم في بقية العناصر القوية في المجتمع، وهكذا إلى أن يؤول الأمر إليهم ، فإذا آل عملت السنة الاجتماعية الأولى عملها فتبعهم الناس أفواجاً بعد أن كانوا ينضمون إليهم أفراداً أفراداً .

       هكذا فعل أنبياء الله ، وهكذا ينبغي أن نفعل إذا أردنا  لحالنا أن ينصلح . لقد بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من قريش القبيلة القائدة ، وفي مكة البلدة القائدة   –  أم القرى  –  ولكنه لم يكن حاكما ولا كان ثريا ،بدأ الدعوة باللسان  – بقوة الفكر –  فانضم إليه الأفراد الأقوياء ، كثير منهم من الطبقة الضعيفة وقليل منهم من الأشراف. ودفع الضعفاء الحركة الإسلامية بصبرهم على الأذى والاضطهاد والقتل لأنهم أثبتوا أنهم يدافعون عن حق، ودفع الأشراف الحركة بصبرهم وببذلهم أموالهم واستغلالهم مكانتهم الاجتماعية في سبيل نشر الحق وتثبيته. ثم كانت بيعة العقبة وكانت الهجرة فصارت للدعوة الجديدة أرض مستقلة، وانضم الحكم إلى النبوة ثم كانت غزوة بدر الكبرى وهزيمة المشركين عسكرياً بعد أن هُزموا فكرياً ، ثم توالت الغزوات وتوالت معها الانتصارات حتى فتحت مكة فصارت الدولة الجديدة دولة مهيبة ، عندئذ نزل قول الله تعالى :

(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3] .

       وهكذا فعل موسى ، توجه بالدعوة إلى الرئيس الكبير لعله أن يسلم ففي إسلامه حقن للدماء وانتشار للحق بغير عناء .

(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44] .

       ولكن إذا كان فرعـون من النـوع الذي يعميه العـلـو في الأرض عن رؤيـة الحق فما كـل أفـراد الناس في بلده كذلك ، لقد جـئ بالسحـرة ليهـزموا موسى وكان أكـبر شـرف يطـمـعـون فيه أن يكـونوا من المقربين لفـرعون  ولكنهم رأوا الحق ناصعاً فقالوا لفرعون وهو يهددهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ثم بالصلب في جذوع النخل ، قالوا له :

(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) [الأعراف:126] .

       وهم لا يرون من حق إنسان أن يمنع إنسانا من إتباع الحق حين يصدق فجره

       بداية الطريق إذن ابتداء حركة من هذا النوع ، ولكن هذه الحركة بحمد الله قائمة بل إنها لحركة تكفل الله تعالى للأمة المحمدية بأن لا يخلو منها زمن من الأزمان ، فقد قال صلى الله عليه وسلم “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”[15]  وهذه الطائقة ليست جماعة بعينها واسمها وشعاراتها ولكن يدخل فيها كل إنسان يستمسك بالحق، ويدعو إليه سواء كان من أفراد الطبقة القائدة أو من ضعفاء الناس وسواء كان يعمل مستقلاً أو في جماعة .

       وفي العالم اليوم  – لا أقول في العالم الإسلامي-  بل في العالم كله حركة إسلامية تتمثل في جماعات شتى وأفراد وهيئات رسمية وشعبية كلها تعمل في حدود طاقتها للعودة إلى الإسلام .

       فنقطـة البداية إن موجودة … إنها الحركـة أو الدعوة الإسـلامية بالمفـهـوم الشامـل الذي ذكرته ، والمهم أن تتسع رقعتها ويصلب عودها ، بتنمية فكرها وتقويته ، وببذل المال ، وبمساعدة السلطات الحاكمة ما كان ذلك ممكنا .

       إذا حدث كل هذا وهو حادث بإذن الله أمكننا أن نسير خطوات أكثر في مواجهة الحضارة الغربية ، لا بإيقاف غزوها لنا فحسب ، بل بهداية أصحابها إلى الصراط المستقيم . إن طموحنا ينبغي أن لا يقف عند حدود الدفاع ورد العدوان بل ينبغي أن يتعداه إلى طلب المعتدي ودعوته ، كيف ؟

 

 

كيف نواجه الحضارة الغربية ؟

       كيـف نواجهـهـا فنكف أثرهـا السـلـبـي عنا وكـيف نواجـهـهـا فنقومـهـا ونصلحـهـا لكي تكـون حضارة إنسانية حقا.

      لقد قلت إن هذا لا يتأتي إلا إذا صرنا أمة قائدة وتحدثت عن الخطوة الأولى نحو تلك القيادة وفيما يلي نستكمل بقية الخطوات وبإيجاز شديد :

 

أولاً : الحكم بالإسلام ومن أهم عناصر هذا الحكم : 

أ-  الاستقلال وعدم التبعية للدول الكبرى سواء كانت تبعية سافرة أو مقنعة ، ولعل هذا الاستقلال هو الآن أصعب الأشياء منالا فهو يحتاج  مع الأخذ بكل الأسباب  المادية اللازمة له إلى إيمان راسخ وتوكل على الله تعالى وتذكر دائم بقوله سبحانه :

(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص:57] .

ب-    حرية سياسية تشعر المواطن بأنه عزيز في بلده ، بين أفراد مساوين في الحقوق الإنسانية وإن علوه ببعض المناصب الدنيوية ، وتمكنه من أن يفكر بحرية ويشارك بفكره وجهده في إصلاح حال بلده ، يقول للمصيب أصبت والمخطئ أخطأت  مهما كان منصبه ثم يذهب لينام قرير العين لا يدهمه بالليل طارق يقتاده إلى الحبس إرضاءً لنزوة حاكم . إن فقدان الحرية السياسية يفقد المواطنين الشعور بالإنتماء لبلدهم ويولد فيهم الإحساس بأن البلد مُلك الحاكم ، من رضى عنه نال الحظوة ومن سخط عليه فلأمه الهبل . ولا يُتصور من إنسان يشعر بهذا الشعور أن يقوم بعمل جليل كالذي نريد.

جـ-   عدل احتماعي، وهو جزء مكمل ولازم للحرية السياسية ، كما أنه عامل فعّال في زيادة الإنتاج . إن الجور الاقتصادي كالجور السياسي ينافي علاقة الأخوة التي هي العلاقة الأساسية بين المسلمين في الدولة ويولد فيهم مشاعر سلبية لا اجتماعية تؤثر فيما تؤثر إلى إنتاجهم الاقتصادي .

د-  أمر بالمعروف ونهي عن المنكر نسخر له وسائل الإعلام ومناهج التربية والتعليم ومؤسساتها وتُستغل لتحقيقه كل الأساليب التي تحبب المعروف إلى الناس وتُكره المنكر إليهم مع عناية خاصة بالصلاة في جماعة .

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) [الحج:41].

هـ- إقامة الحدود كفاً للمعتدين واستدرارا لرحمة رب العالمين .

ثانياً :    تغييرالعلوم إسلامياً :

      أ-  بتنقيتها من شوائب التصورات المادية الإلحادية وسائر التصورات المخالفة للإسلام والتي تمثل إطارها الفلسفي وإن لم تبرز في مضمونها الحرفي.

      ب- بإطراح كل النظريات التي لم يثبتها واقع والتي تخالف حقائق قررها الإسلام ، ولا بأس من دراستها للنقد .

      جـ-   باستبدال الإطار الفلسفي الإلحادي بإطار توحيدي .

      د-  باعتبار الوحي مصدراً من مصادر الحقيقة وهذا يستنتبع  إدخال كل ما أثبته القرآن وصحيح السنة في مضمون العلوم ، كل حقيقة بحسب العلم المناسب لها .

      هـ-   بالسعي نحو الإصالة في كل ما نعالج من مشاكل وما نعطي من أولويات .

     و-  بصياغة العلوم كلها طبيعيها وإنسانيها بلغة عربية فصيحة حتى تكون اللغة العربية لغة العلوم ، كما هي لغة الدين والأدب.

ثالثاً:      دراسة الغرب ، تاريخه ، وواقعه ، مستقبله ، تجاربه ، من وجهة نظر إسلامية ، إننا الآن نقول عن الغرب ما يقوله هو عن نفسه، بل نقول عن الشرق ما يقوله المستشرقون وقد آن لنا أن نعكس الآمر فيكون لنا مختصون بشؤون الغرب يعالجون قضاياه على أساس إسلامي، وأعني بالإسلامية هنا الحقائق التي جاء بها الإسلام كما أعني بها مصالح المسلمين الوضعية.

رابعاً:       المرجو من محاولات صياغة العلوم على أساس إسلامي ومن الدراسات الغربية أن تساعدنا في الاستفادة الرشيدة من الحضارة الغربية ، ولكن يمكن أن نجمل فيما يلي ما ينبغي أن يؤخذ وما ينبغي أن ينبذ من هذه الحضارة .

1-          أما ما نأخذه فهو: 

أ-  المنهج العلمي (بعد تنقيته من الشوائب الإلحادية) .

ب- والحقائق الجزئية التي كشفتها العلوم ومعرفتها لا يمكن أن تعزل عن معرفة العلوم التي أدت إليها .

جـ-   وما بنى على هذه العـلـوم من تقنية في صـورة آلات ومـهـارات وما أدت إليـه هذه التقنية من تصنيع .

      2-  ثم لابد لنا من الاستفادة من تجربته في كل مجالات الحياة المعاصرة : المؤسسات التعليمية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية والفنون الإدارية على أن نكيف ما نأخذه مع إطارنا الإسلامي ولا نغير هذا الإطار بالنقل الحرفي لكل ما عندهم كما يحدث الآن في العالم الإسلامي .

2-         أما البيانات والفلسفات والآداب والفنون والعادات والتقاليد ، فلا علاقة منطقية أو نفسية بينها وبين ما سبق . ولكنني أرى مع ذلك أن لا تقطع صلتنا بها قطعا كاملا بل ينبغي دراستها باعتبارها واقعا ينبغي أن نعرفه باعتبارها هديا نستهدي به ، ولذلك أرى أن لا يفتح لها باب الولوج إلى الجماهير الإسلامية بل ينبغي أن تكون موضع دراسة المختصين .

      4-  إن أشد اسلحة الغرب الفكرية خطرا علينا وتدميرا لنا بل خطراً على الغربيين أنفسهم وتدميراً لهم، هو التصور الإلحادي للوجود الذي كاد أن يصبح سمة العصر والذي لا يكاد يخلو منه جانب من جوانب الحياة المعاصرة العلمية أو الفنية أو العلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

           وهو أكبر تحد يواجه الدعوة الإسلامية والمفكرين الإسلاميين ، فإذا نجحنا في التصدي له بالنقد العقلي العلمي المستنير وإذا استطعنا أن تقدم تصورنا الإيماني بديلا لهذا الإطار الإلحادي وأقمنا الحجج العلمية الشواهد الواقعية على أنه الإطار المناسب للمنهج العلمي ولحقائق العلوم الطبيعية والبشرية وللثقافة الإنسانية وبالتالي للحياة السعيدة تكون قد أسدينا خدمة كبيرة لا لأمتنا الإسلامية فحسب ، ولكن للمجتمع الإنساني كله، وذلك أن هذا المجتمع يقترب من الدمار كلما ساد فيه فساد التصور الذي يؤدي إلى فساد السلوك، وكلما خبا فيه نور الرسالة المحمدية.

      ولكن هذا عمل عظيم يحتاج إلى صبر ويقين، يحتاج إلى يقين بأنه تصورنا الإيماني هو الحق الذي لا ريب فيه وأن التصور الإلحادي بكل لوازمه وفي كل صوره وأشكاله تصور باطل مفسد .

      ويحتاج إلى صبر في مواجهة هذا التصور والتصدي له وعدم مسالمته أو مداهنته بحجة المعاصرة أو الحضارة أو التجيد، مهما طال الزمن وضجت الدعايات وسقط المنهزمون.

      والصبر واليقين هما الشـرطـان اللازمـاـن لكل من يريد أن ينال شـرف القيادة الفكرية المقتديـة بـهـدي رُسل الله .

(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] .


الهوامش:

[1]  عنوان البحث حددته لجنة المؤتمر

[2]  التبان هو السراويل القصيرة .

[3]  تجديد الفكر العربي ، دار الشروق ، الطبعة السادسة 1980م ، ص 13 .

[4]  مختصر تفسير ابن كثير ط3 ، 1399 ، جـ2 ، ص 37 .

[5]  The  Message of Quran, London, 1980. F.

[6]   تفسير المنار جـ1 ، ص 223 ، القارة 1972.

[7]   جـ1 ، ص 225 .

[8]   جـ1 ، ص 227 .

[9]   محمد عبده.

[10]   محمد اسد.

[11]  حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجة وأبو داود

[12]   البخاري  ، كتاب المناقب ، باب مناقب قريش

[13]   مسلم ، كتاب الإمارة

[14]   البخار ي، كتاب المناقب ، باب أيام الجاهلية ، “عن قيس بن أبي حازم قال  : دخل أبو بكر على امراة من أحمس  يقال لها زينب فرآها لا تكلم ، فقال ما لها لا تكلم ؟ قالوا حجت مصمتة ، قال لها تكلمي ، فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت فقالت من أنت ؟ قال امرؤ من المهاجرين ، قالت أيُ المهاجرين ؟ قال من قريش ، قال من أي قريش أنت ؟ قال إنك لسؤول أنا أبو بكر .

[15]   مسلم كتاب الإمارة

 —————-

أُلقي هذا البحث في المؤتمر العالمي للدعوة الإسلامية الذي عُقد بالخرطوم (22-26 جمادى الأولى عام 1401هـ الموافق 28 مارس- 1 أبريل 1981م) بمناسبة القرن الخامس عشر الهجري.  ثم نُشر في مجلة هذه سبيلي، العدد : 5 ،  1403-1983، ثم نشرته رابطة الشباب المسلم العربي في عام 1987م على شكل كتيب صغير.