نبي الرحمة الإيمانية
أرسل الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين،
رحمة بشخصه:
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 128 )
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران:159)
ورحمة برسالته:
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف:52)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ . أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )العنكبوت: 50-51)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (يونس : 57)
اهتم كثير من إخواننا العلماء والدعاة في هذه الأيام بالرحمة المتعلقة بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من مكارم الأخلاق وكتبوا في ذلك بحوثا وافية قُرئت في كثير من المؤتمرات في أنحاء العالم الإسلامي ونُشرت.
بيد أنني أريد في هذه الورقة المختصرة أن أركز على الجانب الآخر، جانب الرسالة التي أُرسل بها رسول الرحمة، بل على جزء واحد من أجزائها هو لبها والأساس الذي تقوم عليه كل أنواع الرحمة التي أُرسل بها، ألا وهي رحمة هذه الرسالة بقلوب العباد.
إن كل ما يزيل عن الإنسان أسباب الضيق والعنت والضرر والشقاء وييسر له ما يجعل حياته أطيب هو من رحمة الله تعالى بعباده.
ورحمة الله تعالى بهذا المعنى وسعت كل شيء. وهي نوعان رحمة قدرية ورحمة تشريعية. وفي كتاب الله تعالى عشرات الأمثلة التي تدل على أنواع الرحمة قدرية كانت أم شرعية.
من ذلك قوله تعالى على لسان عبده نوح موجها الكلام إلى ابنه عندما أبى أن يركب معه في السفينة وظن أنه سينجو من شقاء الغرق بأن يأوي إلى جبل يعصمه من الماء.
لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (هود:43)
وشفاء أمراض النفوس مما تأمر به من أنواع السوء هو من رحمة الله تعالى:
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يوسف: 53)
والفوز العظيم يوم القيامة إنما يكون برحمة من الله تقي الإنسان من سيئاتها
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
والنجاة من العذاب رحمة
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الملك:28)
وكشف الضر رحمة
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 75)
من أنواع الرحمة التي يذهل عنها كثير من الناس ما نسميه اليوم بالمنجزات المادية التي تُيسر الحياة. فهذا ذو القرنين يقول عن السد الذي وفقه الله تعالى لبنائه.
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (الكهف:98)
وهذا صاحب موسى يقول عن كشفه لكنز الغلامين بأمر من الله تعالى:
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف: 82)
جاء هذا الكتاب هاديا إلى كل أنواع الرحمة التي يسعد بها الإنسان في حياته وبعد مماته. جاء بالرحمة النفسية التي هي أصل كل رحمة. ثم جاء بالرحمة العملية التي هي من لوازم تلك الرحمة النفسية ومكملاتها.
لكن تركيزنا في هذا المقال إنما هو كما ذكرنا على الرحمة المتعلقة بالقلوب، على الرحمة الإيمانية.
فنقول: إن الإنسان يسعد وتطيب نفسه إذا ماكانت حاله النفسية الواقعية من معتقدات وتصورات مناسبة مع الحالة النفسية التي فطره الله عليها. فكلما اقترب حاله الواقعي من حال الفطرة ومقتضياتها كانت حياته النفسية أسعد وأطيب، وكلما ازداد بعده عنها ازداد شقاؤه النفسي مهما عاش في أنواع من النعم الخارجية. وقد أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم كما أرسل سائر إخوانه الرسل برسالة مبناها على فطرته التي فطر الناس عليها:
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم: 30)
فالدين الحنيف يأتي مُقرا لهذه الفطرة ومبنيا عليها، ومفصلاً لمقتضيات الإيمان بحقائقها، ومعطياً الأدلة على صدق تلك الحقائق، والأدلة على زيف ما يخالفها من أنواع الدعاوى والشبهات. وفي هذا كله رحمة واسعة بالمؤمن بما يدعوه إليه رسل الله لأنه يكون حينئذ ذا قلب سليم وعلم وأدلة وحجج يقهر بها الخصوم.
الإنسان مخلوق لله فهو مفطور على الاعتراف بهذه الحقيقة كما هو المشاهد على مر الزمان، وكما تشهد به الدراسات الانثروبولجية الحديثة التي درست ثقافات معظم الشعوب.
لكن إذا كان هذا الأصل الإيماني بالاعتراف بوجود الخالق هو الغالب على معظم البشر، فإن أكثر الناس يحيدون عن لوازمه ومقتضياته، فيأتي رسل الله تعالى ليهدوهم إلى هذه المقتضيات ويدعوهم إلى الإيمان بها ليكون إيمانهم كاملا.
يؤمن الإنسان حتى قبل مجيء الرسول بأن له خالقا، لكنه قد لا يذكر هذا الخالق إلا قليلاً وقد لا يعرف من صفاته ما يؤثر في حياته، فتكون حياته في الواقع كحياة الذين ينكرون وجوده سبحانه.
كتب أحد الانجليز المعاصرين كتابا يدعو فيه إلى الالحاد، وكان مما ذكره في كتابه أن بعض الدراسات أثبتت أن المؤمنين ليسوا بأكثر استمساكا بمكارم الأخلاق من الملحدين. شاركت بورقة في أحد المؤتمرات كانت رداً على بعض دعاوى هذا الملحد فقلت للناس فيما يتعلق بهذه المسألة إن كلامه قد يكون صحيحا لأن ذلك يعتمد على نوع الذين عدهم من المؤمنين. ثم ذكرت لهم أن مجرد الإيمان بوجود الخالق لم يعصم العرب الذين أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يعبدوا معه غيره من كل أنواع الأصنام والأوثان. بل أقول الآن وإنه لم يعصم الغربيين المتدينين من مثل هذا الشرك.
يأتي الرسول ليقول للناس إنكم على حق في إيمانك بوجود الخالق وربوبيته، ويهديه إلى حجج تؤيد هذا الإيمان الفطري وترد على منكريه. من ذلك قوله تعالى في كتاب الرحمة ردا على منكري وجوده سبحانه
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ . أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ . أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ . ( الطور: 35 -37(
ثم يقول له إن هذا الإله الذي تؤمن بأنه هو وحده الذي خلقك وهو وحده الذي يرزقك والذي بيده حياتك ومماتك هو أيضا وحده الذي ينبغي لك أن تعبده، ويعطيه أدلة كثيرة على ذلك منها قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 21-22)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (إلعنكبوت: 16-17)
في هذه الآيات وغيرها كثير يرشد الله تعالى عباده إلى أنه بما أن العبادة إنما هي في أصلها شكر، فإن هذا الشكر ينبغي أن يكون لصاحب النعمة لا لغيره.
إذا استجاب الإنسان لهذا الأمر الإلهي فعبد الله تعالى وحده ولم يشرك معه شيئا في هذه العبادة يكون قد استحق بفضل الله تعالى أكبر رحمة يرحم بها بشر لأن توحيد الله تعالى هو لب كل خير ولأن الشرك به هو أساس كل شر. وهي رحمة يشعر بها الإنسان في قلبه ويجد لها حلاوة لا تدانيها حلاوة، وتجعله يعيش حياة لا حياة أطيب منها. لكنه يبين له أن إيمانه بهذا الخالق لا يكتمل إلا بإيمانه بحقائق أخرى هي من لوازم الإيمان بربوبيته وألوهيته.
الحقيقة الأولى من هذه الحقائق معرفة صفات هذا الخالق وأسمائه الحسنى. وذلك لأن الإنسان كلما ازدادت معرفته بربه ازدادت خشيته له وازداد قربه منه فازدادت بذلك سعادته. وكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت كذلك معرفته بمقتضيات تلك الصفات، فازداد فقهه لكلام الله، وازداد تفكره في آيات الله الكونية والكلامية وعلمه بها وبمقتضياتها. كتاب الرحمة الذي أنزله الله تعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم مليء بذكر هذه الصفات. فالرب الذي جرد عبادته له هو المتصف بكل صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقص. فمن صفات كماله أنه:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر: 22-24)
ومنها أنه هو
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. (البقرة:255)
الحقيقة الثانية التي هي من مكملات الإيمان بالله تعالى الإيقان بأنه سبحانه لا بد أن يرسل إلى عباده رسلاً وينزل عليهم كتبا تتضمن هدايته لهم. كيف يمد الله تعالى عباده بكل ما يحتاجون إليه من أنواع الرزق المادي الذي لا تقوم حياتهم الجسدية إلا به، ثم لا يمدهم بما يحتاجون إليه من أنواع الهداية التي هي قوام حياتهم الروحية التي هي الحياة الحقيقية؟
فالإيمان بضرورة إرساله سبحانه للرسل وإنزاله للكتب هو من لوازم معرفة الإنسان بصفات ربه سبحانه. لذلك ذم الله تعالى أقواما أنكروا رسالات السماء ووصفهم بأنهم لا يقدرون الله حق قدره إذ ينكرون بعض ما هو من لوازم صفاته.
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شيء (الأنعام:91)
وكما يهديه سبحانه إلى هذه الحقيقة فإنه يهديه إلى مقتضياتها. فمن ذلك أنه يهديه إلى الدليل الذي يدل على أن الرسالة هي حقا من الله تعالى وهو أن لا يكون فيها تناقض واختلاف
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.(النساء:82)
وأن يكون فيها ما يدل على هدايتها ولا سيما إذا ما قورنت بغيرها من الكتب البشرية:
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (القصص:49)
وإذا كانت الرسالة السماوية أكبر رحمة يرحم الله تعالى بها عباده فلا بد أن تكون موجودة في كل زمان ومكان وأن يكون بإمكان البشر أن يطلعوا عليها ويهتدوا بها كما يوجد الهواءاللازم لحياتهم الحسية في كل زمان ومكان، بل أكثر من ذلك. ينظر الإنسان العاقل حوله باحثاً عن هذه الرسالة في عصره هذا فيكتشف أنه لم يبق من رسالات السماء إلا الرسالة التي انزلت على محمد بن عبد الله، ولم يبق من رسل الله رسول تعرف سيرته ليُقتدى به إلا محمد بن عبد الله. فيقول في نفسه هذا والله إذن هو خاتم رسل الله.
إن الإنسان لا يعيش فردا منبت الصلة بغيره من البشر لا يتأثر بهم في طريقة أكل أو شرب أو لبس أو سلوك أو عبادة، بل إن بعض الناس ليتأثر ببعض في كل ذلك ويحذو حذوهم. فمن رحمة الله تعالى بالإنسان المؤمن أن يدله على رجل شهد له سبحانه بالسير على صراطه المستقيم وجعله قدوة لغيره من الذين يبتغون الوصول إلى الله تعالى:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب: 21)
فمن أراد الوصول إلى الله تعالى بذل جهده في الاقتداء برسوله في عبادته وفي خلقه وفي معاملاته.
فالذين يحاولون التنقص من قدر هذا النبي لا يعادونه أو المسلمين فحسب وإنما يعادون البشرية كلها إذا يحاولون أن يسدوا عليها الطريق الموصل إلى الرحمة التي جاء بها محمد بن عبد الله.
وإذا آمن الإنسان برسول الله وبالرسالة التي أنزلت عليه فإن الله تعالى يرحمه رحمة ثانية بأن يهديه إلى الطريقة التي يتعامل بها مع هذه الرسالة السماوية ومع الرسول الذي أنزلت عليه، فلا يقدم علي كلام الله أو كلام رسوله شيئا من رأي أو ظن أو أمر لمخلوق، بل ويتجنب حتى رفع صوته على صوت الرسول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (الحجرات: 1-3)
وإذا كانت رسالة كالرسالة المحمدية موجهة إلى البشر جميعاً، بل وحتى إلى الجن، فإنه يلزم من ذلك أن تكون رسالة واحدة تفهم على حقيقتها في كل زمان ومكان بعد نزولها، لمن أراد فهمها وحقق شروط ذلك الفهم. أعني أنها لا يمكن أن تكون في طبيعتها قابلة لأن تفهم بأوجه مختلفة متناقضة بحسب زمان القارئ ومكانه كما يقول بعض الجهلاء اليوم، لأنها إذا كانت كذلك لم تكن رسالة واحدة، بل كانت رسائل متعددة، وسبحان الله عن مثل هذا العبث.
الحقيقة الثالثة التي لا يكتمل الإيمان إلا بها والتي هي من لوازم صفاته، ومن لوازم طبيعة مخلوقاته لمن تأملها هي أن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى يلقى فيها المطيع لله جزاء إحسانه ويعاقب فيها الكافرعلى إساءته. وفي القرآن الكريم أدلة كثيرة على ضرورة وجود هذه الدار وكونها أمر تقتضيه صفات الخالق وطبيعة مخلوقاته. فالله تعالى حكيم لا يمكن أن يفعل شيئاً عبثاً. وإرسال الرسل ثم عدم التفريق بين من آمن منهم بالرسالة التي أرسل بها رسله ومن كفر بها وأنكرها نوع من العبث الذي يتنزه الله تعالى عنه
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )المؤمنون: 15-16)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (القلم: 33-36 )
بل إن وجود السموات والأرض وغيرها من أنواع الخلق هو من الأدلة على وجود تلك الدار الآخرة لأن الله تعالى إنما خلق هذه المخلوقات الدنيوية وسخرها لمنافع الناس مسلمهم وكافرهم فكيف يكون مصير النوعين واحدا بعد انقضاء هذه الحياة الدنيا ومافيها؟ ولذلك فكثيرا ما نجد القرآن يقرن بين البعث وخلق السموات والأرض بالحق:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( الروم: 8 )
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ . وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (الجاثية: 21-22)
وللإمام ابن كثير كلام نفيس في هذا الصدد قال رحمه الله تعالى:
قَالَ تَعَالَى ” أَمْ نَجْعَل الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض أَمْ نَجْعَل الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ” أَيْ لَا نَفْعَل ذَلِكَ وَلَا يَسْتَوُونَ عِنْد اللَّه وَإِذَا كَانَ الْأَمْر كَذَلِكَ فَلَا بُدّ مِنْ دَار أُخْرَى يُثَاب فِيهَا هَذَا الْمُطِيع وَيُعَاقَب فِيهَا هَذَا الْفَاجِر وَهَذَا الْإِرْشَاد يَدُلّ الْعُقُول السَّلِيمَة وَالْفِطَر الْمُسْتَقِيمَة عَلَى أَنَّهُ لَا بُدّ مِنْ مَعَاد وَجَزَاء فَإِنَّا نَرَى الظَّالِم الْبَاغِي يَزْدَاد مَاله وَوَلَده وَنَعِيمه وَيَمُوت كَذَلِكَ وَنَرَى الْمُطِيع الْمَظْلُوم يَمُوت بِكَمَدِهِ فَلَا بُدّ فِي حِكْمَة الْحَكِيم الْعَلِيم الْعَادِل الَّذِي لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة مِنْ إِنْصَاف هَذَا مِنْ هَذَا وَإِذَا لَمْ يَقَع هَذَا فِي هَذِهِ الدَّار فَتَعَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ دَارًا أُخْرَى لِهَذَا الْجَزَاء وَالْمُوَاسَاة وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآن يُرْشِد إِلَى الْمَقَاصِد الصَّحِيحَة وَالْمَآخِذ الْعَقْلِيَّة الصَّرِيحَة .
وكما أن مجرد الإيمان بوجود الخالق، بل حتى بربوبيته من غير معرفة بأسمائه وصفاته سبحانه وما تقتضيه هذه الصفات لا يكفي لإصلاح حال الإنسان وتعرضه لرحمة الله تعالى، فكذلك مجرد الإيمان بوجود دار آخرة لا يؤثر في حياة الإنسان ويصلحها إذا لم تكن له معرفة بتلك الدار وتصور صحيح لها. ولذلك نجد في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وصفا مفصلا للجنة التي يجازى بها المتقون والنار التي يعاقب بها الكافرون حتى كأنهما رأي عين.
يبين الله تعالى أن أكبر نعمة ينعم بها على عباده في دار جزائه هي تمكينهم من رؤيته تعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ وتنجنا من النار؟. قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل” ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (يونس: 26)
وإذا كانت رؤية الله تعالى هي أرقى أنواع النعم في الجنة فهنالك نعم نفسية أخرى منها كون أهل الجنة إخوة متحابون أزال الله تعالى عن قلوبهم كل أثر لغل. ومع النعيم المادي هنالك رزق يشبه في شكله وأسمائه ما يعرفون من أحسن أرزاق الدنيا من المآكل والمشارب والمساكن والملابس والمناكح لكنه مختلف عنه في حقيقته وإن شابهه في اسمه.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
وكما بين سبحانه تفاصيل وصف الجنة وما فيها من أنواع النعيم فقد بين كذلك بين تفاصيل وصف النار ومافيها من أنواع العذاب. بين سبحانه أنه إذا كان أكبر نعيم ينعم به أهل الجنة هو رؤيتهم لربهم، فإن أكبر عذاب يعذب به أهل النار هو حجبهم عن تلك الرؤية.
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ( المطففين: 15-16)
وإذا كان مما ينعم به أهل الجنة كونهم إخوة متحابين فإن من أشد ما يشقى به أهل الجحيم كونهم أعداء متباغضين يلعن بعضهم بعضا. ثم يضاف إلى ذلك أنواع العذاب الأليم من نار وحر وسموم وزمهرير وأكل يقطع البطون ولباس يحرق الجسوم.
يذكر الله تعالى عباده بحقيقة مهمة تتعلق بالدار الآخرة هي كونها دار خلود وأن الحياة الدنيوية دار مؤقتة لا تساوي مدة بقائها شيئا بالنسبة للدار الآخرة ولذلك فإن الإنسان العاقل لا يغتر بنعيمها وإن أخذ بحظ وافر منه ويصبر على أذاها وإن ناله ما ناله شدائدها. بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقيقة التي تدعو إلى ذلك بصورة مؤثرة
فعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: ياابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا والله يارب ويؤتى بأشد الناس في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له ياابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يارب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط. (رواه أحمد ومسلم)
ومن تمام الإيمان بالله أن يعرف الإنسان شيئا عن ملائكة الله تعالى وما كلفوا به من أعمال تتعلق بصلة العبد بربه. فأعظم رسالة يؤديها هؤلاء العبيد الذين يفعلون ما يؤمرون هي حملهم لرسالة الله إلى رسله. ثم إنهم هم المؤكلون بكل ما يتعلق بحياة الإنسان من أكل وشرب ونعيم وبؤس، وحياة وموت، وغير ذلك.
وكما هو ضروري للإنسان أن يعرف ملائكة الله المطيعين له ويؤمن بهم، فإنه من الضروري له كذلك أن يعرف أعدى أعداء الله ويكفر به، ويحذر من طاعته في ما يأمره به من أنواع الكفر والذنوب وما يلقيه في قلبه من أنواع الشهوات والشبهات.
وإذا كان هذا الإيمان هو جوهر الرحمة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه إيمان تلزم عنه أعمال ظاهرة وباطنة يرحم الله تعالى عباده المؤمنين بهدايتهم إليها وإعانتهم عليها فيزدادون بها سعادة وحياة طيبة. فالشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعبير باللسان عن إيمان استقر في القلب، والصلاة هي أهم العبادات التي تنهى المؤمن عن الفحشاء والمنكر وتجعله دائم الصلة بالله:
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (العنكبوت:45)
ثم بقية العبادات من صوم وزكاة وحج كلها مما يقي الإنسان من عذاب الله ويعينه على رضوانه ودخول جنانه.
ثم مكارم الأخلاق التي بعث الرسول بإتمامها والتي هي من لوازم الإيمان وما يتبعه من عبادات. فالمؤمن بالله تعالى والعامل لتلك الأعمال الصالحة يجد في نفسه ميلا إلى الاستمساك بمكارم الأخلاق من صدق وأمانة ورحمة بالناس وعدل بينهم.
وإذا ما تهيأ الناس بإيمانهم وعباداتهم ومكارم أخلاقهم ليحسنوا التعامل بينهم جاءهم هذا الدين بكل ما يصلح حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أنواع التشريعات التي هي أيضا رحمة بهم.
جعفر شيخ إدريس، 13 أبريل 2008