البخاري غير معصوم .. لكن كل ما في كتابه صحيح
177

مقال الشيخ جعفر شيخ إدريس

هل يلزم من كون البخاري غير معصوم أن توجد في كتابه الذي بين أيدينا الآن أحاديث غير صحيحة مخالفة لكتاب الله أو لصريح العقل أو للحقائق الحسية؟

هكذا يظن بعض الناس في أيامنا هذه. ولكنه ظن تكذبه قواطع الأدلة كما سأبين بعدُ بإذن الله تعالى.

لو كان ما في البخاري مجموعة آراء لرجل من بخارى اسمه محمد إسماعيل إبراهيم لقلنا يستحيل أن تكون آراؤه أو آراء أي بشر مثله كلها صحيحة لأن الله تعالى يقول عن القرآن العظيم (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، لكن الكتاب الذي نحن بصدده ليس تسجيلاً لآراء بشر، إنما هو جامع لما يقرب من ثلاثة آلاف حديث من الأحاديث النبوية الصحيحة. فهل من المستحيل عقلاً أو شرعاً على إنسان غير معصوم أن يجمع هذا العدد من الآحاديث النبوية في كتابٍ واحد من غير أن يُخطيء فيجعل فيها أحاديث ضعيفة أو موضوعة؟

ولو كان البخاري هو وحده الذي عزا هذه الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلربما قلنا إنه قد يُستبعد على بشر عادي أن يروي هذا القدر الكبير من الأحاديث من غير أن يُخطيء في شيءٍ مما روى. لكن البخاري لم يكن أول من عزا هذه الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت هذه الأحاديث معروفة للعلماء، متداولة بينهم، حتى قبل أن يُولد الإمام البخاري رضي الله عنه. كل ما فعله البخاري أنه جمع قدراً من تلك الأحاديث المشهود لها بالصحة، وبَوبَها تبويباً رائعاً يدل على عمق فقهه وحِدة ذكائه. وهو لم يجمع كل ما ثبت له صحته من الأحاديث ولا أراد ذلك، كل ما حرص عليه ألا يُدخل في كتابه حديثاً غير صحيح، ومن هنا كان الاسم الكامل للكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.

ولو كان البخاري هو وحده الذي حكم لهذه الأحاديث بالصحة، لأمكن أن يُقال ربما كانت المعايير التي وضعها للحكم على الأحاديث بالصحة أو عدمها غير صائبة كلها أو بعضها.

إن بعض من لا فقه لهم يتصورون أن الإمام البخاري جلس على أريكته، ونظر إلى سقف بيته ثم قال – بمجرد التشهي – إن الحديث الصحيح ينبغي أن يكون كذا وكذا. ثم جاء العلماء من بعده فسلموا له في سذاجة بالغة بهذا الذي قرره، وقلدوه في الحكم على أحاديثه بالصحة.

قد يقول بعض القراء: إذن ما الذي حدث؟ من الذي وضع شروط الصحة والضعف للأحاديث؟ وعلى أي أساس؟ وسواء كان هو البخاري أو غيره فإنما هم بشر يُخطئون ويصيبون، فلماذا نلتزم بما قرروا؟

هذا سؤال مهم، أرجو أن يكون في بيانه ما يُزيل عن القلوب شبه الموسوسين والمرتابين ويرد إليها برد اليقين بصحة ما صحح العلماء – ولاسيما البخاري – من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

إن ما يُعد حقيقة وما لا يُعد – في أي علم من العلوم الدينية والدنيوية – ليس أمراً متروكاً لأهواء الأفراد وتلذذاتهم مهما كان علمهم و كانت شهرتهم. وإنما هو أمر تقتضيه وتفرضه طبيعة العلم المبحوث فيه. فإذا كان مجال حقائقه مما يمكن أن يُشاهد بالحس المباشر، أو كان مما يمكن أن يُستدعى بالتجربة، جعلنا المشاهدة والتجربة دليلاً أساسياً على صحة دعوى وجود حقيقة من هذا النوع، ولم نقبل – حتى في حياتنا اليومية، ودعك من مجالاتنا العلمية المتقدمة – دعاوى تقوم على مجرد الرأي، أو الرؤى. وإذا كان مما يمكن أن يُشاهد، ولا يُمكن أن تجرى عليه التجارب، كالحقائق الفلكية، اشترطنا المشاهدة وحدها. وإذا كان مما لا يمكن أن يشاهد ولا يمكن أن تجرى عليه التجارب، بحثنا عن منهج آخر مناسب له يوصلنا إلى حقائقه. فإذا كان مجاله حقائق الأحكام الشرعية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لم نقبل دعوى تتصل بها ما لم تكن مستندة بطريق مباشر أو غير مباشر إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن علماء الشرع – كعلماء الطبيعة – لا يقبلون الدعاوى القائمة على مجرد الرأي أو الرؤى المنامية ما لم يستند عليها دليل. والدليل بالنسبة لعلماء الطبيعة هو المشاهدة، وبالنسبة لعلماء الشريعة هو نصوص الكتاب والسنة. لكن علماء الطبيعة وعلماء الشريعة يقبلون الأدلة العقلية المستندة إلى أدلتهم الأساسية.

وكذلك الأمر بالنسبة للحقائق المتعلقة بالحديث النبوي، إن طبيعتها هي التي تحدد منهج الوصول إليها، ومن ثم الدليل على صحة الدعاوى المتعلقة بها أو زيفها.

فكيف تعرف أجيال المسلمين التي جاءت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تتشرف برؤيته ولا بالاستماع إليه، ولا عاشت أيامه، كيف تعرف ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من خَلقٍ وخُلق، وما سنّ وشرع؟

لا طريق أبداً إلا طريق الرواية. يشاهد المعاصر للرسول – صلى الله عليه وسلم – حاله ويسمع مقاله، فينقل ذلك إلى من جاء بعده، وينقله هذا بدوره إلى الجيل الذي يليه، وهكذا. إن الرواية هي المنهج العلمي الوحيد المعتمد لمعرفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. حتى لو كان التصوير الفوتوغرافي، والتسجيل الصوتي أو الفديوي موجوداً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى لو أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تُلتقط صورته ويُسجل صوته، لما أغنى ذلك عن الرواية! كيف نتأكد من أن الصورة التي نشاهدها هي صورته، وأن الصوت صوته، إلا بشهادة من عاصره وعرفه؟ إن كبار المؤرخين الذين بلوا هذه الأمور يعرفون أن التصوير والنحت المنقوش لا تمثل دائماً الحقيقة الواقعة، بل قد تكون تعبيراً عن رأي أو اعتقاد، أو تسجيلاً لأماني وآمال لم تتحقق. ها هم العرب الجاهليون يصورون إبراهيم وإسماعيل وفي أيديهما الأزلام، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم “قاتلهم الله! أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط”[2]
هذا المنهج الذي يقتضيه العقل هوالذي جاء به الشرع. فأنت إذا تأملت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر وجدته قد حث أصحابه على الرواية بل وضع كل الشروط التي تجعل منها منهجاً علمياً موصلاً إلى الحقيقة، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو أصحابه الحاضرين إلى الحرص على تبليغ ما سمعوا إلى إخوانهم الغائبين تبليغاً أميناً لا زيادة فيه ولا نقصان. من ذلك قوله لهم في حجة الوداع: “ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه”[3] فالرواية كانت مهمة، وكانت وسيلة ضرورية من وسائل نشر العلم، حتى في الوقت الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهراني أصحابه؛ فما من أحد من هؤلاء الأصحاب كان دائماً معه صلى الله عليه وسلم يشاهد كل أحواله، ويسمع كل أقواله. لذلك كان الغائب منهم يعتمد على ما يحدثه به الشاهد حتى في ذلك الوقت المبكر. فهذا عمر بن الخطاب وهو من ألصق الناس صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد من عوالي المدينة. وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك” [4]

الرواية إذن طريقة علمية للوصول إلى الحقيقة، وهي الطريقة الوحيدة الموصلة إلى أكثر الحقائق التي لا نستطيع الإطلاع عليها إطلاعاً مباشراً. بل إن الرواية هي أهم طرق نشر العلم بين الناس، حتى ما كان منه متعلقاً بالحقائق الحسية.

إن عدداً قليلاً جداً من العلماء المختصين هم الذين يعرفون حقائق العلوم الطبيعية هذه معرفة تجريبية مباشرة. أما سائر الناس من عامة عباد الله – علماء كانوا أو غير علماء – فإن وسيلتهم الوحيدة إلى معرفتها إنما هي ما يرويه لهم الذين شاهدوها أول مرة أو ثانيها أو ثالثها، بأن أعادوا تجربة العالِم الأول ليتأكدوا من صحة نتائجها. فلو لم تكن الرواية وسيلة معتمدة للمعرفة – أياً كانت – لما كانت هنالك كتب، ولما كانت مدارس ولا جامعات، ولا غيرها من وسائل الإعلام، ولإنحصر العلم في تلك القلة من الناس التي أمكنها أن تطلع على الحقائق إطلاعاً مباشراً.


الرواية إذن طريقة معتمدة للوصول إلى الحقيقة. لكن الناس يكذبون والناس ينسون، فكيف نتأكد من أن ما قالوه صحيح ونحن لا نستطيع أن نسمع أو نرى ما ادعوا أنهم سمعوا أو رأوا؟

الطريقة الوحيدة للتأكد من صحة الرواية التي تفرضها علينا هذه الحقيقة، هي ألا نأخذ إلا عمن عرفنا أنه لا يكذب وأنه جيد الحفظ، وهذان هما الشرطان اللذان عبر عنهما علماء الحديث بالعدالة والضبط، وهما أشمل من مجرد الصدق وجودة الحفظ. (فالعدالة تشمل جميع الصفات التي تشترك في تكوين الثقة بصدق الراوي، من حسن العقيدة، والقيام بأوامر الشرع واجتناب ما نهى عنه، وترك كل ما يخل بالمروءة، والاتصاف بالورع والتقوى، ومحاسن الأخلاق. والضبط يعني كمال الملكات العقلية، والنباهة وعدم الغفلة، واليقظة، وحسن الفهم والحفظ والمعرفة بأحوال الناس)[5] لكن مقصود الشرطين هو كما ترى التأكد من أن الراوي حكى لنا ما سمعه أو شاهده كما هو فلم يغير فيه عن قصد فيكون كاذباً، ولا عن سوء فهم أو نسيان فيكون غير حافظ.

العدالة والضبط هما إذن الشرطان الأساسان اللذان يجب توفرهما فيمن يعتد براويته. فإذا كان كل رواة حديث ما عدولاً ضابطين، وكان كل منهم قد سمع ممن حدث عنه، ولم يكن في الحديث المروي شذوذ ولا علة، كان الحديث صحيحاً لا محالة. لذلك عرّفوا الحديث الصحيح بمثل قولهم (ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، وسلم من الشذوذ والعلة).

إن عدم العصمة لا يقتضي حتمية وجود الخطأ في كل ما يروي غير المعصوم، وإنما يقتضي احتمال وجود الخطأ. وإذا كان الأمر كذلك فإن على من يدعي وجود الخطأ، ألا تكون حجته مرتكزة على مجرد عدم عصمة الكاتب أو الراوي، لأن صيغة حجته ستكون عندئذ كما يلي: الكاتب غير معصوم، إذن احتمال الخطأ فيه وارد، إذن هو مخطيء. وهي كما ترى حجة فاسدة، وذلك أن احتمال الخطأ هو بالضرورة العقلية احتمال للصواب. وإذن فعلى من يدعي وجود الخطأ أن يأتي بحجة مستقلة تثبت وجوده، ولا يعتمد على مجرد احتمال وجوده.

قد يقول لنا هذا الخصم معترضاً: سلمت لكم بأن احتمال وجود الخطأ لا يعني وجوده فعلاً، فسلموا لي أنتم أيضاً بأن احتمال أن يكون كل ما في البخاري صحيحاً لا يعني تحقق هذه الصحة فعلاً. لكنكم إذا فعلتم ذلك لم يمكنكم الجزم بأن كل ما في البخاري صحيح.

نقول لو أننا ادعينا بأن كل ما في البخاري صحيح لمجرد احتمال صحته، للزِمنا ما تقول. لكن العلماء الذين جزموا بأن كل ما في البخاري صحيح فعلوا ذلك استناداً إلى حجج مستقلة عن احتمال الصواب.

لكن البخاري أمعن في الاحتياط للصحة، فقرر حتى بالنسبة لمن روى عنهم من الثقات –إذا لم يصرح أحدهم بالسماع ممن روى عنه – ألا يكتفي كما اكتفى معظم علماء الحديث بإمكان لقياه له، بل اشترط وقوع اللقاء فعلاً. كان من رأي بعض العلماء أن هذه مبالغة لا داعي لها، لكن كثيرين منهم رأوا أنها لا تضر بلا تزيدنا إلا ثقة بصحة الحديث.

وهذا أوان بيان بعض هذه الحجج لمن كان يقدر الحجج قدرها، ويبني مواقفه على قوتها.

قال لنا البخاري إنه لم يدخل في كتابه هذا من الأحاديث إلا ما كان صحيحاً، بشروط الصحة الموضوعية المتفق عليها، والتي ذكرناها سابقاً.

ثم إن البخاري دفع بكتابه هذا الذي قضى في تأليفه وتنقيحه ست عشر سنة، إلى علماء جهابذة، منهم الإمام أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري، فهي صحيحة[6]، وسمع هذا الكتاب من فم البخاري تسعون ألفاً من طلاب علم الحديث النبوي[7]، والذين أثنوا على الكتاب وشهدوا له بإصابة الصواب، ومدحوا مصنفه وعظموه، لم يكونوا كما قد رأيت من عامة الناس، بلا ولا من عامة العلماء، وإنما كان “معظم من أثنى عليه ونشر مناقبه شيوخة الأعلام المبرزون، والحذاق المتقنون”[8]
إن احتمال أن يُخطيء البخاري أمر وارد ما في ذلك شك. أما أن يكون في كتابه خطأ لم يكتشفه أحد من تلك الآلاف المؤلفة من العلماء الجهابذة الأتقياء على مر العصور، ثم يعثر عليه شخص في زماننا هذا، فأمر لا يقول به عاقلٌ أمينٌ يعي ما يقول.
إن مثل احتمال اكتشاف خطأ جديد في كتاب الجامع الصحيح، كمثل احتمال وجود خطأ في مسألة حسابية، روجعت عدة مرات ووجدت صحيحة. هب أن أستاذاً كلف طالباً معروفاً بنجابته في الرياضيات أن يحل مسألة رياضية معقدة، فحلها الطالب، وراجع حله عدة مرات فلم يجد فيه خطأ، ثم جاء شخص من أمثال هؤلاء الموسوسين فقال للأستاذ كيف تأمن أن يكون هذا الحل صحيحاً؟ إنك وطالبك بشر غير معصومين فكيف تأمنون أن يكون حلكم لهذه المسألة هو الحل الصحيح؟ فشرح له الأستاذ كيف أنه وطالبه راجعا حلهما عدة مرات، ولذلك وثقا من صحته. لكن الرجل ظل مصراً على احتمال وجود الخطأ، فتناول الأستاذ آلة حاسبة، وحل بها المسألة أمامه، فجاءت النتيجة موافقة لحل الطالب. لكن الرجل أصر على احتمال وجود الخطأ حتى على الآلة الحاسبة بحجة أنها من صنع بشر غير معصوم!

إن الذي يصر على احتمال وجود الخطأ في كل عمل بشري مهما رُوجع، يلزمه إن كان مسلماً أن لا تكون له ثقة بهذه المصاحف التي بين أيدينا، فهي بالطبع لم تنزل علينا مكتوبة هكذا من السماء، وإنما نسخها بشر من أمثالنا، فما الذي جعلنا نثقة بها، ونجزم بأنه لا خطأ فيها؟ وثقنا بها لأننا نعلم أنه لا ينسخ المصحف إلا رجل حافظ للقرآن الكريم، بصير بقواعد الرسم العثماني، وأن المصحف لا يُنشر إلا بعد أن يراجعه مراجعة دقيقة عدد وافر من القراء المتقنين المختصين بمعرفة الرسم القرآني، ويزد ثقتنا أن العالم مليء بحمد الله تعالى بأمثال أولئك الحفاظ المتقنين الغيورين على كتاب الله تعالى. فعدم اعتراضهم عليها دليل على أنهم لم يجدوا فيها خطأ.

على أن خلو كتاب ما من الخطأ ليس قاصراً على كتاب البخاري، أو المصاحف القرآنية، بلا يتطلب حتى أن يكون المرء مسلماً، ودعك أن يكون معصوماً!

هب أن كاتباً غير مسلم مختصاً بعلم الفيزياء قرر أن يؤلف كتاباً يجمع فيه ما يُعد حقائق أصولية في هذا العلم، ولم يشترط على نفسه استيفاء كل هذه الدقائق، لكنه اشترط ألا يدخل في كتابه هذا إلا ما يعده أرباب هذا العلم حقائق مقطوعاً بصحتها، وألا يدخل فيه من هذه الحقائق الفيزيائية التجريبية القطعية الأصولية، إلا ما اطلع هو نفسه على أوراقه الأصلية التي كتبها العلماء الذين أثبتوا هذه الحقائق. وهب أنه بعد أن ألف كتابه هذا، دفع به إلى عدد من علماء الفيزياء المختصين في فروعها المتعددة، وأن هؤلاء المختصين وافقوه على أن كل ما أدخله في كتابه هو فعلاً مما يعدونه حقائق فيزيائية أصولية مقطوعاً بصحتها، إلا أن عدداً قليلاً منها قرر أن يخرجه من كتابه. وهب أنه بعد أن نشره كتابه هذا أثنى عليه عدد كبير من العلماء المختصين بفروع الفيزياء المختلفة، وأجمعوا على أنهم لم يجدوا فيه ما لا يعدونه حقيقة تجريبية قاطعة. فهل يسوغ بعد هذا لإنسان أن يقول إن الكتاب ربما كانت فيه أباطيل ظنها هذا المصنف من علم الفيزياء لأنه رجل غير معصوم؟

وإذا كان هذا أمراً ممكناً في كتاب إنسان غير مسلم، وفي علم دنيوي، فما الذي يمنع تحققه في كتاب إنسان جمع الله تعالى له شرطي العدالة والضبط في أعلى صورتيهما؟ فمن المعروف عن الإمام البخاري أنه كان آية من آيات الله تعالى في جودة الحفظ، فقد قالوا عنه إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سرداً، وقال هو عن نفسه “كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم إلا صاحب حديث” وأنه كان مثالاً للمسلم التقي الزاهد الورع، يكفيك في هذا قوله “خرجت كتاب الصحيح من ستمائة ألف حديث، وما وضعت فيه حديثاً إلا اغتسلت وصليت ركعتين” [9]

ولكن هب أن أولئك العلماء الجبال في علم الحديث كانوا قد أجمعوا على أن البخاري أخطأ في عدة أحاديث، فظنها صحيحة وهي في الواقع ضعيفة، وهب أن عدد هذه الأحاديث كان ثلاثين حديثاً، ثلاثون من زهاء ثلاثة آلاف، أي واحد بالمائة. فهل كان من الإنصاف في شيء أن نشيع القول بأنه ما كل ما في البخاري صحيح بسبب خطئه في واحد بالمائة مما جمع؟

إن الإنصاف حتى على افتراض وجود تلك النسبة من الأحاديث الضعيفة كان يقتضي أن نثني على الكتاب ونقول إن كل ما فيه صحيح إلا أحاديث ذوات عدد هي كذا وكذا وكذا. إن الفرق بين هذا القول المنصف وذلك القول الجائر، أن هذا الأخير يشكك في الكتاب كله ويزيل الثقة به، إذ أن سامعه من عامة المتدينين سيظن بكل حديث يُقال له إنه رواه البخاري أنه قد يكون غير صحيح، فمن باب أولى ما يرويه غيره، فتبطل بذلك الثقة بكل الأحاديث النبوية الشريفة، وهذه فتنة عظيمة، نسأل الله تعالى أن يُجنبنا إياها وسائر المسلمين.


[1] نُشرت هذه الدراسة في مجلة الدعوة بتاريخ 4 محرم 1411 هـ
[2]صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من كبر في نواحي الكعبة
[3]صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حجة الوداع
[4]صحيح البخاري، كتاب العلم، باب التناوب على العلم
[5] الدكتو ر محمد الصباغ، الحديث النبوي مصطلحه، بلاغته، علومه، كتبه. منشورات المكتب الإسلامي، 1392 هـ، 1972م، ص 162
[6] الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: هدي الساري، مقدمة فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، المكتبة السلفية، ص 7
[7] الإمام النووي، ما تمس إليه حاجة القاريء لصحيح الإمام البخاري، تحقيق علي حسن علي عبدالحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 21
[8] المرجع السابق، ص 3
[9]انظر في كل هذا كتاب الشعب صحيح البخاري، مقدمة الناشر.