اضطراب الملحدين 3\4
بدأنا هذه السلسلة من المقالات القصيرة بمقدمة ثم ثنَّينا بالتعليق على نقد دوكنز للبراهين العقلية على وجود الخالق، وعلَّقنا على دعوى الفيزيائي الشهير هوكنز في كتابٍ له حديثٍ بأنه ليس هنالك من حاجة لوجود الخالق سبحانه، ونواصل اليوم تعليقنا على هوكنز، ثم نعود إلى دوكنز ودعواه بأن الدارونية تُغْنِي عن وجود الخالق، ثم نتناول في المقال الأخير اضطرابَه وغيرَه من الملحدين في العلاقة بين الإيمان والأخلاق.
مما قاله هوكنز في الدليل على عدم الحاجة إلى الخالق – سبحانه -: أن القوانين الفيزيائية – ولا سيما قانون الجاذبية – كافية وحدَها لإخراج الكون من العدم إلى الوجود.
ونقول: إن قانون الجاذبية نفسه يفترض وجود موجودات؛ لأن الجاذبية إنما تكون بين أشياء موجودة؛ فكيف يكون هذا القانون هو الذي يوجد الكون من العدم؟
ثم نقول: إن القوانين الطبيعية ليست بالشيء الأزلي، وإنما محدَثَة شأنها في ذلك شأن المخلوقات التي تحكمها؛ فكيف تكون هي التي تُحدِثها من العدم؟
إن مشكلة هؤلاء الملحدين هي أن تصوُّرَهم للخالق تصوُّر في غاية القصور، حتى يمكن للمرء أن يقول: إنه لا داعي لإنكار وجوده؛ لأنه أصلاً شيء لا يمكن أن يوجَد.
لَـمَّا كانت مهمة الإله في تصوُّر كثير ممن يسمَّون بالمفكرين الغربيين محصورة في أن يبدأ الخلقَ، ثم يتركه بعد ذلك يسير وحدَه بالقوانين الطبيعية، كما يحرك إنسان عجلةً من مكان عالٍ متدحرِج، كان من السهل على رجال من أمثال هوكنز أن يقولوا: إن الكون مستغنٍ عن خالق كهذا؛ لأنه يمكن أن يبدأ سَيرَه مستقلاً عنه.
هذا مع أن الخالق الحـق هـو خالق لا يكون شيء في الوجود إلا بإذنه وعلمه وقدرته، كما قال – تعالى -: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102]. وكما قال – سبحانه -: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
مِنْ فَهْمِهِم القاصر للخالق – سبحانه وتعالى – أن الكثيرين منهم ما زالوا يخلطون بين المخلوقية والسببية؛ وهي قضية ناقشها مناقشة مفصَّلة وفرغ منها علماء المسلمين منذ قرون. إنهم يظنون أنه إذا اكتُشف سبب حدوث شيء فذاك يعني أنه ليس مخلوقاً، وأن السبب النهائي لحدوثه هو هذا السبب المشاهَد، وكان كثير من المؤمنين بوجود الخالق يستدلُّون على وجوده بالحوادث التي لم يصل العلم التجريبي إلى اكتشاف أسباب لها؛ لذلك كان الملحدون يسخرون منهم ويسمون خالقهم إلهَ الفجوات، ولا سيما أن العلم الطبيعي كان يسد بعض هذه الفجوات باكتشافه لأسباب الحوادث التي قيل: إنه لا يحدثها إلا الله تعالى.
الدارونية والإلحاد:
ذكرنا تعليقات بعض الفيزيائيين على كتاب هوكنز. ونذكر الآن تعليق داعية الإلحاد البيولوجي الداروني دوكنز. لقد استقبل دوكنز الكتاب بفرح شديد، كما هو متوقع، وقال معلقاً عليه في صفاقة: (إن الدارونية ركلت الخالق فأخرجته من الأحياء، لكن الفيزياء ظلت مترددة إلى أن جاء هوكنز فضربه الضربة القاضية)[1].
لقد رأينا حجة هوكنز وما فيها فَلْنُعد النظر الآن في حجة دوكنز التي زعم أنَّ دارونيته أخرجت بها الخالق من نطاق الأحياء، وأقول دارونيته؛ لأنه ما كل أحيائي، بل ما كل داروني يوافقه على ما ذهب إليه، كما أنه ما كل فيزيائي يتفق مع هوكنز كما رأينا.
ويزعم دوكنز أن لديه بديلاً أحسن من القول بوجود خالقٍ خلقَ الخلقَ بإرادته وعلمه. ما هذا البديل؟ يقول: (إن أي خلاَّق ذي وعي يكون مـن التعقيد بحيث يستطيع أن يصمم أي شيء، لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة لعملية تطوُّرية طويلة.
بما أن الوعي الخلاَّق يأتي عن طريق التطور فإنه يكون بالضرورة في آخر الكون، فلا يمكن لذلك أن يكون مسؤولاً عن تصميمه)[2]
إن حجة دوكنز هذه من النوع الذي يسمى بالمصادرة على المطلوب، وهي أن يجعل الإنسان ما يُطلَب منه برهانُه من مقدمات ذلك البرهان. لقد بدأ حجته بدعوى أنه سيأتي ببديل عن وجود الخالق. والذي يزعم أن بديله هو الأحسن لا بد أن يأتيَ بأدلة مستقلة عن دليله تبرهن أفضليته. لا يمكن أن يدَّعي إنسان – مثلاً – أن الدكتاتورية خير من الديمقراطية، ثم يدلل على ذلك بحجج مبنيَّة على أفضلية الدكتاتوري. لكن هذا بالضبط هو الذي فعله دوكنز. لقد افترض أنه لا يوجد موجود ذو وعي إلا إذا كان مثل الكائنات الحية التي يتعامل معها علم الأحياء، والتي تنطبق عليها قوانين الدارونية. هذا مع أن خصمه يزعم أن هذه الأحياء التي تتحـدث عنها الدارونية ما كانت لتـوجد لولا وجود خالق ليس هو من نوعها، خالقٍ لا يصدق عليه وصفُه بأنه لا يأتي إلى الوجود إلا نتيجة عملية تطورية طويلة.
إن نظرية دوكنز التي جعلها بديلاً عن القول بوجود الخالق لا تحل أهم إشكال يحله القول بوجوده – سبحانه – وهو أن النظر في طبيعة هذه الكائنات يدل كما قلنا من قبل على أنها ليست أزلية، وأنها لا يمكـن أن تكـون قد جاءت من العـدم، ولا يمكن أن تكون هي الخالقة لنفسها؛ فلا بد لها لذلك من خالق. وكما أن هذا يقال عن الكائنات الكبيرة المشهودة، فإنه يَصْدُق أيضاً على الكائنات الصغيرة التي زعم دوكنز أن كائنه الواعي الخلاَّق تكون منها.
إن العلماء الطبيعيين من أمثال هوكنز ودوكنز بدؤوا يفتنون الناس في بلادهم وفي غيرها من البلاد التي يُتَأثَّر فيها بفكرهم، وما أكثرها! بدؤوا يصوِّرون لهم الإلحاد على أنه هو المعتقد الصحيح الذي يدل عليه علمهم ويدعمه.
إن ثقة الناس الشديدة بالعلوم الطبيعية هي التي تجعلهم يعتقدون صحة كل ما يقال لهم: إن هذا العلم يدل عليه. وقد علمت علماً مباشراً بتأثُّر بعض شباب العالم الإسلامي، بل العربي منه بهذه الفتنة. ولعل من أسباب ذلك أن الدارسين منهم لفروع هذه العلوم لا يعرف – حتى المتدين منهم – ما يتعلق بهذه القضايا في دينه، فيكون مثله في ما يتعلق بها كمثل زميله الغربي، ولعل من أسباب ذلك أيضاً قلة ما يسمى بالثقافة العلمية بين المتخصصين بما يسمى بالعلوم الشرعية. لا أحد بالطبع يتوقع أن يكون كل من جعل همه دراسة التفسير أو الحديث أو الفروع الفقهية أو اللغة العربية متبحراً في العلوم التجريبية، كما أنه لا يُتوقَّع من كل متخصص بفرع من العلوم التجريبية أن يكون إلى جانب ذلك متبحراً في الدراسات الشرعية. بل إنه لا يُتوقَّع ممن تخصص بفـرع من العلوم التجـريبية أن يكون عالماً بها كلها؛ فمن تخصص بالفيزياء لا يكون عالماً بالأحياء كعلم المتخصص بها… وهكذا؛ فكيف يُطلَب ذلك من المتخصص بفرع من العلوم الشرعية؟
ولذلك فإننا إنما نتحدث عن الثقافة العلمية التي تؤهل كلَّ مثقف أن يكون ملمّاً بنتائج تلك العلوم، عارفاً بالقضايا العامة التي تثيرها، أعني القضايا التي يسميها القوم بالفلسفية.
وكذلك صاحب العلوم الطبيعية بالنسبة للعلوم الشرعية. إن المطلوب منه أن يعرف أمور دينه معرفة عامة وأن يكون ذا صلة مستمرة بكتاب الله – تعالى – حتى يبني تصوُّره العام عليه، بل لا بد له من أن يعرف بقدر من التفصيل بعض ما يتعلق بقضـايا علمه من مسـائل العقيدة؛ لا بد له من معرفة التصور الصحيح لصفات الخالق، تصوُّرِ أئمة أهل السُّنة الذي ربما كان هو السبب الأساس في إنقاذ المسلمين من الإلحاد.
كيف ذلك؟
لقد انقسم خصوم أهل السُّنة في هذه المسألة إلى فريقين فريق الجهمية الذين لا يكادون يُثبتُون لله صفة، وفريق المجسِّمة الذين يشبهون الخالق بمخلوقاته مع فارق واحد هو كونه أكبر منها. ولذلك لخص أئمة أهل السُّنة هذين المذهبين بقولهم: الجهمية يعبدون عدماً والمجسمة يعبدون صنماً.
واضح أن الانتقال من إله الجهمية إلى الإلحاد أمر في غاية الاحتمال. إن المفكر الذي يأخذ اعتقاد الجهمية مأخذ الجد يوشك أن يقول لنفسه: ما الفرق بين أن أقول: إنني مؤمن بشيء لا يوصف بصفة من الصفات، وأن أقول: إنني لا أؤمن بشيء؟ كذلك الانتقال من التجسيم إلى إنكار وجود الخالق؛ فقد يقول الإنسان لنفسه: إذا كان الدليل على وجود الخالق هو كون هذه المخلوقات تحتاج بطبيعتها إلى من يخلقها، وكان هذا الذي يقال إنه خالق هو مثلها مع فارق الحجم، فإنه أيضاً يحتاج إلى خالق؛ لأن الحجم لا تأثير له في كونه محتاجاً إلى خالق.
إن اهتمام بعض المسلمين بهذه القضايا سيكون فيه بإذن الله – تعالى – هداية للناس المعرَّضين للتأثُّر بمثل هذا النوع من الدعاوى التي تربط بين العلم الطبيعي والإلحاد.
ذلك أن التصور الصحيح لصفات الخالق هو الذي يثبت لله – تعالى – كل صفات الكمال وينفي عنه كل صفات النقص ويقول مع ذلك: إنه ليس كمثله شيء. هذا التصور – وهو تصور أهل السُّنة المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم – هو الذي سيعصم الناس – بإذن الله تعالى – من الوقوع في شَرَك الإلحاد مهما كانت أنواعها.
[1] ”Another ungodly squabble”.The Economist.2010-09-05.
http://www.economist.com/blogs/babbage/2010/09/science_and_religion.Retrieved2010-09-06
[2] (ص 31) من كتابه، حاولت أن أترجم كلام دوكنز ترجمة يسهل على القارئ العربي فهمها، لكن ها أنذا أضع النص الإنجليزي بين يدي القارئ الذي يعرف الإنجليزية؛ لئلا يتقيد بفهمي:
Any creative intelligence of sufficient complexity to design anything comes into existence only as the end product of an extended process of gradual evolution. Creative intelligences, being evolved, necessarily arrive late in the universe and therefore cannot being responsible for designing it.