وانفصل الجنوب
2,000

انفصل جنوب السودان عن شماله وتحقق للإنجليز ثم لخلفائهم الأمريكان وأنصارهم وأذنابهم ما أرادوا. كان الإنجليز حريصين (منذ أن وطئت أقدامهم أرض السودان غُزاةً  مستعمرين) على أن لا يتأثر جنوب السودان بثقافة شماله العربية الإسلامية، لكنهم كانوا مع ذلك حريصين على أن يبقى جزءاً من السودان ما دام ذلك خادماً لمصالحهم الإستراتيجية. لذلك جعلوا الجنوب إقليماً شبه مستقل عن الشمال، لا يستطيع جنوبي أن يتخطى حدوده إلى الشمال ولا شمالي أن يتخطى حدود الشمال إلى الجنوب إلا بإذن يشبه التأشيرة. ثم إنهم اجتهدوا في أن يرسموا للشماليِّين في مناهجهم التعليمية صورة منفرة، صورة العربي الذي  يخطف الأفارقة ويبيعهم ويسترقُّهم، بل وصل الأمر إلى حد المبالغة حين عوقب أحد الخياطين لصنعه ثوباً عربياً لأحد الجنوبيين كما تحكي كتب التاريخ. لكنهم في المقابل شجعوا جماعاتهم الدينية بكل أطيافها لتجتهد في تنصير الجنوبيين، وجعلوا التنصر سبيلاً للدراسة الثانوية والجامعية وما فوقها، فكان أن تنصر كثير من أبناء الجنوبيين بمن فيهم المسلمون  بغية الحصول على فرصة للتعليم، فصرتَ تسمع أسماء مثل جون إبراهيم، وتيريزا إدريس مثلاً. ثم كانت نتيجة ذلك أن أصبحت الفئةَ المتعلمةَ المثقفةَ ومن ثَمَّ القائدة هي فئة المتنصرين، مع أن النصارى ما يزالون رغم كل تلك الجهود أقلية، بل يقال: إن عددهم ما يزال أقل من عدد المسلمين في الجنوب. ولكن وسائل الإعلام الغربية، ومقلديها في وسائل الإعلام الأخرى حتى العربية والإسلامية، كثيراً ما تذكر الأمر بطريقة مضلِّلة توحي بأن الجنوب إقليم نصراني. إنها توحي بذلك إذ تقول دائماً حين تتحدث عن الجنوب: الجنوب الذى أغلبيته من غير المسلمين، وهو كلام صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن أغلبيته من غير النصارى.

وإذا كان الإنجليز قد تحمَّلوا ذلك الوِزْر فإننا في الشمال نتحمل جزءاً منه أيضاً؛ وذلك لأننا لم نفعل كلَّ ما في وسعنا بعد استقلال السودان في دعوة الجنوبيين إلى الإسلام، لم نبذل هذا الجهد حتى مع الذين كانوا معنا في الشمال وفي المدارس والجامعات؛ حتى إن أحد زملائنا الفضلاء من أساتذة جامعة الخرطوم قال لي: إن زميلاً جنوبياً بالجامعة قال له بعد حديث دار بينهما: أتدري يا فلان أن هذه أول مرة يدعوني فيها أحد إلى الإسلام؟ أقول لم نفعل كلَّ ما في وسعنا ولا أقول: إننا لم نفعل شيئاً؛ فقد كان هنالك دعاةً وهبوا أنفسهم للتبشير بالإسلام في البيئات الجنوبية كان من أشهرهم الشيخ محمد الأمين القرشي. وكانت هنالك منظمات أَبْلَت بلاءً حسناً في هذا السبيل، مثل منظمة الدعوة الإسلامية التي كان على رأسها أخونا الفاضل (مبارك قسم الله) عليه رحمة الله. أقول: إنه بالرغم من تقصيرنا فإن الكثيرين من الجنوبيين تأثروا تأثيراً كبيراً بالثقافة العربية؛ فصاروا يتكلمون العربية ويقرؤونها، بل صار بعضهم يكتب بها، كما أن كثيرين منهم دخلوا في دين الله تعالى. ومع أن ما يسمى بالحركة الشعبية التي تحكم الجنوب الآن ستحرص على إحلال الإنجليزية محل العربية فإن ذلك سيكون أمراً عسيراً إنْ لم يكن متعذراً؛ لأن العربية صارت الآن هي اللغة المشتركة بين كل الجنوبيين من العوام والمثقفين.

وإذا كنا قد قصَّرنا في دعوة الجنوبيين إلى الإسلام، فإن بعضنا قد ذهب إلى أكثر من هذا فاتخذهم ذريعة إلى تحقيق مآربه العَلمانية. لقد كان الحزب الشيوعي السوداني أول من أشاع (بعد الاستقلال) فكرة أن للجنوبيين ثقافةً غير ثقافة الشمال، وشايعهم في هذا غيرهم من رجال الأحزاب العَلمانيين متعللين بوجود الجنوبيين في معارضتهم لفكرة الدستور الإسلامي.

وكان الموقف الغربي قد اضطرب بعض الشيء في موقفه من الانفصال؛ فقد كان بعضهم يرى أن الجنوبيين يتزايدون بمعدلات أكبر من الشماليين (وهي حقيقة)، وأنهم يوشكون أن يكونوا أغلبية في أقل من ثلاثين عاماً؛ فلماذا لا نصبر حتى يكون السودان كله حينئذٍ دولة إفريقية ذات أقلية إسلامية؟

فما الذي جعلهم الآن يغيِّـرون رأيهم؟ يرى بعض المحللين أنهم يريدون الآن أن يصطادوا عصفورين بحجر واحد: يريدون للجنوب أن ينفصل، لكنهم يريدون للجنوبيين الذين يسكنون الشمال أن يبقوا فيه. فيكون الشمال قد خسر الأرض والبترول، لكنه يتحمل عبء البشر؛ أكلَهم وشربَهم وتعليمَهم وحريَّتهم الدينية، وأكثر من ذلك إمكانية اتخاذهم ذريعة لرفض أي حكم إسلامي. ليس هذا فحسب، بل إن هنالك أصواتاً شمالية وجنوبية تنادي بما يسمى بالجنسية المزدوجة للجنوبيين، وبما أسموه بالحريات الأربع: حريات التملُّك والتنقل والعمل والإقامة.

من الآثار الضارة للانفصـال إلى جانب ما أشرنا إليه: أن البترول الذي كان السودان يعتمد عليه في نموِّه في السنوات الأخيرة سيكون معظمه من حظ دولة الجنوب الجديدة. يقول بعض المختصين: نعم؛ لكن مخزون الشمال من البترول هو أكبر من مخزون الجنوب. ويقال لهم: إنه حتى لو كان الأمر كذلك فإن استخراج هذا المخزون ربما استغرق مدة من الزمن، وأن السودان الموحد كان سيكون أغنى بإضافة الجديد من المكتشفات البترولية إلى القديم.

وهنالك مشكلة مياه النيل التي ستكون قسمتها الجديدة ضارة بمصر أكثر من ضررها بالسودان.

ما الذي سيحدث لإخواننا المسلمين الجنوبيين؟ إنهم يخشون أن يجدوا أنفسهم في دولة عَلمانية معادية للإسلام تضيِّق عليهم وإن كانت لا تستطيع أن تمنعهم من ممارسة دينهم؛ ولذلك فإنهم – خوفاً من هذا المصير – صوتوا لانفصال لا يريدونه، لكنهم خشوا من أن يُعتبَروا بمثابة المعادين أو الخائنين لدولة الجنوب الجديدة.

إن دولة الجنوب الجديدة لن تكون إذن دولة عَلمانية لا شأن لها بالدين سلباً أو إيجاباً؛ لكنها ستكون دولة معادية للدين الإسلامي في سياساتها الداخلية والخارجية؛ فقد أعلن بعضهم أنهم سيعترفون بإسرائيل، وبمحكمة الجنايات التي تطالب بتوقيف الرئيس عمر البشير، وأنهم – كيداً في إخوانهم السُّنيين – سيفتحون الباب للدعوة الشيعية.

ولن يقف الأمر عند هذا الحد فإنهم والأمريكيين يصرِّحون الآن بأنهم سيهدفون إلى إحداث تغيير جذري في بِنيَة الدولة الشمالية؛ يعنون تغييراً في توجهها الإسلامي.

إذا كان الأمريكيون قد خططوا لفصل الجنوب عن الشمال بهدف تغيير جذري في بِنية الدولة الشمالية، فإنهم لم يقفوا عند حد التخطيط؛ بل أتْبَعوا ذلك بمساعدات هائلة قدَّموها للجنوبيين جعلت منهم قوة عسكرية تضاهي القوات السودانية المسلَّحة أو تزيد عليها. وهذا هو الذي أطال أمد الحرب وضاعف تكاليفها المالية والبشرية.

إن انفصال الجنوب من أقوى الشواهد على أضرار حال التمزق الذي تعيشه الأمة العربية؛ ذلك لو أنها كانت أمة واحدة، بل لو كان بينها من الائتلاف ما بين الدول الأوروبية لما جَرُؤ أحد على اقتطاع جزء منها.

تلك مضار الانفصال؛ فهل له من منافع؟

أول منافعه التي يعترف بها بعض إخواننا السودانيين المحللين – بغضِّ النظر عن رأيهم في الانفصال -: أن السودان سيكون بعده أكثر انسجاماً؛ إذ إن نسبة المنتسبين إلى الإسلام فيه ستقارب ثمانية وتسعين بالمئة. وبهذا ستنهار كل الذرائع التي كان يتعلل بها العَلمانيون وأشباههم في رفضهم للدولة الإسلامية.

إن السودان ما كان يمكن أن يكون دولة إسلامية مع اتحاد بين شماله وجنوبه. كيف يكون كذلك مع وجود أناس غير مسلمين في المناصب التشريعية والقضائية والتنفيذية كما هو الحال الآن؟ وإذا لم يَجُزْ التخلي عن الأرض كما يقول بعض إخواننا ولا سيما مَنْ هم خارج السودان؛ فهل يجوز شراء الأرض بالدين؟