الأخلاق والنظم
أعني بالنُّظُم كل ما يتعلق بالترتيبات الظاهرية لعلاقات الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها في مجتمع من المجتمعات.
وأعني بالأخلاق مكارم الأخلاق من صدق وأمانة وعدل وغيرها.
ما العلاقة بين هذين؟ إن التجربة تدل على أنه لا قيام لنظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو حتى أسَري، إلا بقدر من هذه الفضائل. تصور لو أن معظم الناس في مجتمع من المجتمعات صاروا كذابين، وخونة ولصوصاً: التاجر يكذب، والعالم يزوِّر، والقاضي يحابي، والسياسي يسرق، ورجل الأمن يرتشي، والزوج يخون!
ليس هذا فحسب، بل إن النظام نفسه مهما كان نوعه لا يتأتى إلا بقدر من هذه القيم. كيف تكون ديمقراطية مثلاً إذا كانت الانتخابات تزور؟ وكيف يكون نظام إسلامي إذا كان الحاكم يستغل الدين ليأكل أموال الناس بالباطل؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ؟
إذا كانت مكارم الأخلاق هذه ضرورية لتلك النظم الخارجية؛ فمن أين تأتي بها، وكيف تحافظ عليها؟
غلت النظرية الماركسية فزعمت أن الأخلاق إنما هي نتيجة النُّظُم، ولذلك عزت كل ما اتصف به الناس من مساوئ الأخلاق كالسرقة والكذب والأنانية إلى النظام الرأسمالي، وكانت ترى أنه بحلول النظام الاشتراكي أو الشيوعي فإن كل هذه المساوئ ستتحول إلى حسنات، فتحل الأريحية محل الأنانية، والصدق محل الكذب، والأمانة محل الخيانة، وهكذا. لكن التجربة قد أثبتت بطلان هذه النظرية الماركسية؛ فقد بني النظام الاشتراكي في كثير من البلاد لكن الناس ظلوا كما كانوا يخونون ويكذبون ويسرقون. هذه نظرية كان يمكن أن يعرف بطلانها قبل التجربة وبمجرد النظر. إن الذين دعوا إلى الاشتراكية كانوا هم أنفسهم من نتاج المجتمع الرأسمالي؛ فما الذي جعلهم يذمون تلك المساوئ حتى قبل حلول الاشتراكية؟ وما الذي جعلهم يفكرون في نظام يقضي عليها لولا أنهم كانوا منذ البداية مؤمنين بأن القضاء عليها شيء حسن تقتضيه مكارم الأخلاق؟
لا تذهب النظريات الغربية من ديمقراطية وليبرالية ورأسمالية مذهب الماركسية، لكن الغريب فيها كلها أنها تكاد تهمل هذا الأمر إهمالاً كاملاً في تقعيدها النظري. إنها تفترض في الناس أن يكونوا أمناء، وتفرض عقوبات على أنواع من الجرائم الخلقية كالسرقة والخيانة. ما مصدر هذه الأخلاق؟ وما الذي يدعو الناس إلى الالتزام بمحاسنها، أو يغريهم باللجوء إلى مساوئها؟ ليس في هذه النظريات حتى محاولة للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، بل ربما عدت الكلام فيها أمراً خارجاً عن نطاق النظم السياسية أو الاجتماعية.
أما الإسلام فيولي هذا الأمر أهمية قصوى. فهو يُخبرنا بأن أصل هذه المكارم في فطرة الإنسان. فالرسول -صلى الله عليه وسلم – يخبرنا بأن «ما من مولود إلا يولد على الفطرة» (1) . والفطرة هي كل ما في الإنسان من فضائل وعلى رأسها اعترافه بعبوديته لله تعالى. ويؤكد هذا قوله -صلى الله عليه وسلم – في حديث أبي هريرة في الصحيحين: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» (2) ، والجذر هو الأصل.
إن في وجود هذه المحاسن في كل مجتمع من المجتمعات دليلاً على صدق هذا الذي يقرره الإسلام.
لكن كونها مما فطر الله الناس عليه لا يعني أن فطرتهم تُلزمهم بها؛ لأن الفطرة إنما هي بمثابة الصوت الداخلي الذي يقول للإنسان: يا عبد الله! هذا خير فاتبعه! لكن الإنسان مخير بين أن يستمع إلى هذا الصوت أو يعرض عنه، كما أنه مخير بين أن يستمع إلى صوت الهداية الخارجي أو يعرض عنه.
بعد الفطرة يأتي الدين الحق الذي هو دين تلك الفطرة، فيقوى داعي هذه المكارم في قلوب المؤمنين.
إن الإيمان بالله هو الأساس والمحور الذي تدور حوله كل الفضائل التي فطر الله الناس عليها، فبقوته تزداد قوتها، وبضعفه يزداد ضعفها. إن الإيمان بالله وحبه يثمر في القلب ضرورة حب كل ما يحبه الله من الفضائل.
ثم يأتي الإيمان بالحياة بعد الموت ليؤكد للملتزم بالمكارم أنه إذا كان يخسر خسارة مادية مؤقتة في هذه الحياة الدنيا القصيرة لالتزامه بصدق أو أمانة؛ فإنه هو الرابح في الحياة الآخرة الدائمة.
إذا كان الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبالدار الآخرة يجعل اعتقاد الإنسان متوافقاً مع صوت فطرته الداعي إلى مكارم الأخلاق؛ فما هكذا تكون سائر المعتقدات. إن الذي ينكر وجود الخالق، ومن ثم وجود حياة بعد الموت، يجد في نفسه نزاعاً بين داعي فطرته، ومقتضيات فكرته. إذا عُرضت عليه حالةٌ تغريه بنوع من الظلم، خيانة أو سرقة أو كذباً، أو اعتداء في سبيل مكسب مادي، فلن يجد في فكرته أو معتقده ما يقول له: إن هذا خطأ فلا ترتكبه، بل سيجد فيها ما يسوِّغ له ارتكابه. سيقول لنفسه مثلاً: إذا كانت هذه الحياة هي الحياة الوحيدة التي لا حياة بعدها؛ فلماذا أضحي بهذه المكاسب؟ ما الذي أكسبه من التضحية بها؟ لكنه باعتباره إنساناً سيجد في قلبه ما يقول له: إن هذا خطأ؛ إنه أمر لا يليق؛ إنه وإنه. فإما أن يستمع إلى صوت فطرته، أو يتصرف بحسب فكرته.
أما المؤمن فإنه حين يلتزم بالعدل حتى لو كان عليه فإنه يفعل ذلك تلبية لداعي فطرته الإنسانية، وتمشياً مع مقتضيات إيمانه الذي يقول له: إنك في الحقيقة تكسب حين تضحي هذه التضحية؛ لأن الله ـ تعالى ـ سيعطيك في حياتك الآخرة، وهي الحياة الدائمة أكثر مما خسرت في هذه الحياة الدنيا الفانية.
إن مكارم الأخلاق أمر ضروري لكل مجتمع لكن الإلحاد يجعلها متنافية مع العقل؛ إذ يجعلها تضحية مطلقة لا مكسب من ورائها والإنسان العاقل لا يعمل عملاً لا ثمرة له، ولا يضحي تضحية مطلقة لا مكسب من ورائها.
إن مثل هذا التصور يجعل الحياة الدنيوية كلها حياة متناقضة؛ فأكثر الناس نفعاً للمجتمع هم أكثر الناس خسارة. وفي هذا يقول ربنا: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 – 36]
فالحياة الدنيا تكون حياة ناقصة ومتناقضة من الناحية الخلقية، ولا تكتمل وتتسق إلا بوجود دار آخرة يثاب فيها المحسنون ويعاقب المجرمون.
الإيمان بالله ـ تعالى ـ يجعل الالتزام بتلك الفضائل هي السلوك الذي يقتضيه العقل. فربنا الذي غرس محاسن الأخلاق في قلوبنا جعل الاعتقاد بالثواب عليها من مقتضياتها؛ أعني أن الثواب على عمل الخير هو مما يقتضيه الخير؛ ولذلك فإن الله ـ سبحانه ـ يجزي عليها، ويسألنا سؤالاً استنكارياً: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60] .
ويقول ـ تعالى ـ تعليقاً على قول عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] : {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]
إذا كانت مكارم الأخلاق ضرورية لقيام النظم؛ فإن من النظم ما يساعد الناس على الالتزام بها، ومنها ما يجعل هذا الالتزام أمراً عسيراً عليهم.
ولولا هذه الصلة بين ما في الباطن من قيم، وما في الظاهر من نظم، لما جعل الله دينه شاملاً لهذه النظم، بل لجعله أمراً خاصاً بأحوال القلوب كما يريد له بعض الناس أن يكون. لكن الله تعالى العليم بخلقه شرع للناس شرائع تتعلق بحياتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأسرية، شرائع تعينهم على الاستمساك بكل ما فطرهم عليه وشرعه لهم من فضائل إيمانية وخلقية.
وقد تميزت هذه الشرائع الإسلامية النظمية باهتمام بمكارم الأخلاق لا نظير له في نظام من النظم البشرية.
ففي مجال السياسة مثلاً يقول الله ـ تعالى ـ عن مهمة الحاكم: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [الحج: 41] .
ويقول عن هذه الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] .
فالمهمة الأولى لمن يعطيه الله قوة يسوس بها الناس هي أن يعينهم على أمر لا تقوم الحياة الفاضلة إلا به، وهو عبادة الله وما تثمره هذه العبادة من نهي عن مساوئ الأخلاق.
وإذا كان المعنى الواسع للصلاة هو كل صلة بين العبد وربه، فإن المعنى الواسع للزكاة هو الإحسان إلى الناس، ولذلك كانت هذه هي المهمة الثانية لمن يعطيه الله السلطة.
أما المهمة الثالثة فهي مهمة عامة يدخل فيها هاتان المهمتان وغيرهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هذه أمور لم يعد مألوفاً جعلها من مهام رجال السياسة بحسب التصور الغربي اللاديني الذي صار مع الأسف هو التصور السائد في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي.
لكن عدم جعلها من مهام رجال السياسة لم يُنْجِ السياسيين من محاسبة الناس لهم بمعاييرها؛ ولذلك تجد أن أكثر ما ينتقد به الناس حكامهم هو نقد خُلقي: أنهم لا يعدلون، لا يوفون بوعودهم، يكذبون، يعملون لمجدهم الشخصي، وهكذا.
هذا موضوع كبير وعظيم أرجو أن نعود إليه مرة أخرى.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الجنائز، رقم 1270، ومسلم، كتاب القدر، رقم 4803.
(2) رواه البخاري، كتاب الرقاق، رقم 6016، ومسلم، كتاب الإيمان، رقم 206.
مجلة البيان – 215 – رجب – 1426 هـ أغسطس 2005م