الوسطية لا التميعية
من الخطأ إذن أن تُعطى الألفاظ القرآنية الدلالات الأيديولجية التي ُعطى للكلمات الغربية، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بقضايا في أصول الدين، حتى لو كانت المعاني اللغوية متقاربة. وعليه فإن ما تشير إليه كلمة الوسطية في إطار الهدي الإسلامي لا بد أن تكون مخالفة لما تشير إليه كلمة مقاربة لها لغوياً في إطار أيديولجية مخالفة للإسلام.
دلالة الوسطية في المفهوم الإسلامي يجب أن تُلتمس في مصـادرهـا الإسـلاميـة، في كـتاب الله، وسـنة رسوله صلى الله عليه وسلم . فما الذي تقول لنا عنها هذه المصادر؟
الوسطية التي وردت في كتاب الله صفة خص الله بها المسلمين من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال ـ تعالى ـ عنهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} .
جعلهم ـ سبحانه ـ كذلك بالرسالة التي بلَّغهم إياها نبيهم، فكلما كان الواحد منهم أعلم بها وأكثر عملاً بها كان أقرب إلى الوسطية، فالوسطية ليست ـ إذن ـ موقفاً يتخذه الإنسان من الدين، ولا طريقة يفهم بها الدين، فيقول مثلاً: بما أنني وسطي فأنا لا أكفر أحداً، أو بما أنني وسطي فأنا لا أرى تحريم الموسيقى.
كلا، إنما الوسطية صفة يكتسبها المسلم نتيجة لتمسكه بدينه، هذه الصفة هي التي تؤهله لأن يكون من الشهداء على الناس، الشهداء الذين يقبل الله شهادتهم.
ما هذه الصفة؟
قال الإمام ابن كثير: والوسط ها هنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً، أي خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه، أي أشرفهم نسباً، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات، وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال ـ تعالى ـ:
{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْـمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْـمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
ذكر الإمام الطبري أقوال السلف في تفسير هذه اللفظة، فوجدها لا تخرج عن قولهم: إنها الخيار أو العدل، لكنه قال:
وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين… وأرى أن الله ـ تبارك وتعالى ـ إنما وصفهم بأنهم وسط؛ لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى… ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود… ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه.
وقد جمع الشيخ السعدي بين القولين جمعاً جميلاً في عبارة موجزة فقال: عدلاً خياراً، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر.
ومسألة أخرى مهمة هي أن الله ـ تعالى ـ أعطانا مثالاً حياً واقعـياً لجـماعة معيـنة تمـثلت فيـها هـذه الوسـطية، فقد شهد ـ سبحانه ـ كما شهد رسوله لصحابة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم ممن تحققت فيهم صفة الوسطية. وإذن فكما أننا نعلم المعنى الصحيح للوسطية، فإننا نعرف جماعة معينة تمثلت هذه الصفة فيها، في معتقداتها، وعباداتها، وأخلاقها، ومعاملاتها، ومواقفها من غيرها، وهكذا. وعليه فإن كل من كان أقرب إلى منهجها في فهمه للدين وعمله به، وكان حريصا على التأسي بها، كان أقرب إلى الوسطية.
ولذلك قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن الصحابة رضوان الله عليهم:
فإن الحق لا يعدوهم و(لا) يخرج عنهم إلى من بعدهم قطعا، ونحن نقول لمن خالف أقوالهم: لو كان حقا ما سبقونا إليه. (إعلام الموقعين، 4/166ـ 67).
الجماعة الوسط هي إذن: جماعة معتزة بدينها، متأسية بسلفها، شاهدة بالعدل على غيرها، تقول لهذا: إنك على الحق، وتقول لذاك: إنك على باطل. جماعة تعمل لإعلاء كلمة الله على بصيرة بحقائق دينها، وبصيرة بواقع عصرها، جماعة تدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجادل بالتي هي أحسن إلا من ظَلَم، ولكنها تؤمن في الوقت نفسه بأنه كما لا يقوم الدين إلا بالكتاب الهادي، فإنه لا يقوم إلا بالسيف الناصر. فهي إذن جماعة أبعد ما تكون عن التميع والمداهنة، والخضوع والاستكانة.
ولكن بما أنها جماعة تؤمن بأن العدل واجب على كل أحد مع كل أحد في كل أمر، فإنها لا تُكَفِّر من لا دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله على تكفيره، ولا من لم تُكَفِّره الجماعة التي شهد الله لها بالوسطية ـ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن سار على منهجهم، واقتفى أثرهم ممن جاء بعدهم من أئمة أهل السنة ـ، وكما أنها لا تُكَفِّر بلا دليل، فإنها لا تَهَابُ أن تقول لمن قام الدليل على كفره: إنه كفر وخرج على الملة؛ لأنه إذا لم يكن من العدل أن يخرج إنسان من هذه الملة الشريفة بغير دليل، فإنه من الظلم أن يحسب منها من قام الدليل على خروجه منها، ومعاداته لها. وهي جماعة يمنعها عدلها أن تعتدي على الأبرياء حتى لو كانوا كفاراً.
هذه أمثلة للصفات التي تتحلى بها كل جماعة تتصف بالوسطية بالمفهوم الإسلامي الصحيح لها.
البيان العدد 226، جمادى الآخرة 1427هـ الموافق يونيو 2006