الاعتراف بالآخر
2006-05-01
1,190

قال العَلماني لصاحبه الإسلامي: أتعترف بوجود الآخر؟

قال صاحبه الإسلامي: كيف لا؟ أتظن أنني أعتقد أنني الإنسان الوحيد الموجود في هذا العالم؟

قال العَلماني: ليس عن هذا أسألك. فمن البديهي أنك تعترف بالوجود الحسي لغيرك من البشر

قال الإسلامي: عم تسألني إذن؟

العَلماني: أسألك عن مدى اعترافك بوجوده الاعتقادي والفكرى.

الإسلامي: أنا مؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن القرآن كلام الله،  فأنا أبذل جهدي في الاهتداء به في حياتي كلها. وأنا معترف بأن في العالم أناسا أمثالك لا يؤمنون بما أومن به. وأنا أعلم أن لي أفكاراً وتصورات  ليست مشتركة بيني وبين كثير من الناس. أعن هذا تسألني؟

العَلماني: كلا. وإنما أسألك عن مدى اعترافك بأن ما يراه مخالفوك هؤلاء هو الحق كما أنك ترى أن ما تراه أنت هو الحق .

الإسلامي: إذا كنت أرى أن ما يرونه مما يناقض قولي هو الحق، لا أكون إنساناً عاقلاً.

العَلماني: لماذا؟

الإسلامي: لأنني أكون قد اعتقدت أن القول ونقيضه كلامها حق. هل يقول إنسان عاقل إن للكون خالقاً هو وحده المستحق للعبادة، فإذا قال له مخالفه: بل إن غيره أيضا يستحق أن يُعبد، قال له صدقت. فإنك على حق، كما أنني على حق؟

ثم إذا كنت أراه على حق كما أرى نفسي على حق؛ كيف يكون بالنسبة لي آخر؟ إن الآخر هو الذي يخالفك. أما الذي يوافقك فهو ليس آخر بالنسبة لك، أعني ليس آخر بالمعنى الفكرى الاعتقادي الذي نتحدث عنه الآن.

العَلماني: هل تعتقد أنك دائماً على حق وأن كل من خالفك على باطل؟

الإسلامي: كلا. وأنا لم أقل هذا. كيف أقوله إذا كان هنالك ممن هو أعلم مني بدين الله ( كالإمام الشافعي ) من يقول عن اجتهاداته إنه يراها حقاً يحتمل الخطأ ويرى اجتهادات مخالفيه خطأ يحتمل الصواب؟ إذا كان هذا في قضايا الدين فما بالك بالقضايا الدنيوية التي يكثر فيها الخلاف بين الناس وتتسع فيها دائرة الخطأ والصواب؟

العَلماني: فأنت ترى إذن أن كل قول لك تخالف فيه غيرك يمكن أن يكون خطأ ويكون رأي صاحبك فيه صواباً. هذا هو الذي أعنيه بالاعتراف بالآخر، وهذا هو السبب الداعي للاعتراف به.

الإسلامي: أنا لم أقل ولم يكن لإنسان عاقل مسلماً كان أو غير مسلم أن يقول إن كل اعتقاد ورأي له يمكن أن يكون مخالفاً للصواب، وأن كل اعتقاد ورأي لغيره يمكن أن يكون موافقاً للحق؟

العَلماني: ما ذا تقول إذن؟

الإسلامي: أقول إن عندي ما أجزم بأنه صواب لا يحتمل خطأ وأن كل من خالفني فيه فقوله المخالف باطل لا يحتمل الصواب.

العَلماني: هذه هي المشكلة. إن أمثالك ممن يعتقدون مثل هذا الاعتقاد هم الذين يفرقون بين المواطنين ويرون أن لبعضهم حقوقاً ليست للآخرين؛ إنهم هم الذين لا يعترفون بالتعددية.

الإسلامي: إذا كان هذا هو تصورك للاعتراف بالتعددية فلا أحد يعترف بها، لأنه ما من أحد عاقل إلا ويرى أنه على حق لا ريب فيه في بعض الأمور وأن مخالفه على باطل لا ريب فيه. وهذا يصدق عليك أنت نفسك.

العَلماني: كيف؟

الإسلامي: ألست تراني الآن مخطئاً في ما قلت لك؟ ألست تحاول أن تقنعني برأيك؟ إذن فأنت تراك على حق وتراني على باطل.

 العَلماني: كيف إذن نحل هذا الإشكال ونحن رغم اختلافاتنا مواطنو بلد واحد؟ كيف نعطي المواطنين جميعا في الوطن الواحد الحق في أن تكون لمعتقداتهم وتصوراتهم كلها حقوقا متساوية في تسيير أمر بلادهم؟

الإسلامي: إذا كانت معتقداتهم مختلفة اختلاف تناقض فهذا أمر مستحيل . إنك لا يمكن أن تكتب لبلدك قانوناً، أو ترسم لها سياسة تتكون من عناصر متناقضة، فتقول عن الشيء الواحد إن جائز وغير جائز أو واجب وغير واجب، أو ضار ونافع، أو ينبغي أن يفعل وينبغي أن لا يفعل؟

العَلماني: كيف إذن حلت الدول الدمقراطية هذا الإشكال؟ أليس بإعطائها لكل المختلفين الحق في أن يسيروا بلادهم حسب معتقداتهم وتصوراتهم؟

الإسلامي: كلا. فهذا شيء مستحيل عقلا كما قلت لك. والمستحيل عقلاً لا يمكن أن يصير واقعاً لا في دولة دمقراطية تعددية ولا في غيرها؟

العَلماني: ما ذا فعلوا إذن؟     

الإسلامي:  خذ أمريكا مثلاً. اجتمع ممثلون للشعب الأمريكي في القرن الثامن عشر، وكتبوا دستوراً أُجيزت بنوده بأغلبية الأصوات لا بإجماعها. ثم جعلوا هذا الدستور أساساً لقوانين تجيزها مجالسهم التشريعية بالأغلبية. واعتبروا كل قانون مخالف للدستور قانوناً باطلاً. وعينوا محكمة عليا لتقرر في هذا الأمر. وأجازوا للمجالس تعديل الدستور لكنهم جعلوه أمراً عسيراً. وأجازوا تكوين أحزاب تعبر عن معتقدات وسياسات مختلفة، فمن فاز منها في الانتخابات نفذ سياسته هو لا سياسة مخالفيه. ألست ترى كثرة المعارضين منهم الآن لسياسة رئيسهم بوش؟ أتعتقد أن كل الشعب الأمريكي مؤيد لمن يُسمون بالمحافظين المتطرفين؟

العَلماني: لكنهم أباحوا للمخالفين أن يعبروا عن آرائهم ويدعو إلى معتقداتهم حتى لو كانت مخالفة لما ورد في دستورهم.

الإسلامي: أجل إنهم فعلوا بعض ذلك. لكنني أقول لك:

أولاً، إن نقاشنا لم يكن عن إتاحة الفرصة للمخالف أن يُعبر عن رأيه وإنما كان عن إمكانية أن تجد الآراء والمعتقدات المتناقضة كلها طريقها إلى التنفيذ.

وثانيا حتى التعبير عن الرأي ليس على إطلاقه، فهنالك أمور يعتبر التعبير عنها جريمة يعاقب عليها القانون. ألم يأتك نبأ المؤرخ   الذي حُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات لأنه أنكر (والإنكار قول لا فعل)  حدوث المحرقة اليهودية؟ وألم تعلم أنه لم يُجْده شيئاً كونه اعترف بأنه كان مخطئاً في ما قال وأنه غير رأيه؟ ثم ألم تعلم بأنا أخانا الدكتور على التميمي الأمريكي الجنسية بالميلاد حكم عليه بالسجن مدى الحياة لأنه أُتهم بتحريض (والتحريض قول لا فعل) بعض الشباب على الذهاب إلى كشمير؟  وألم يبلغك خبر الطالبة المسلمة التي منعتها مدرستها الثانوية من ارتداء الحجاب، وأن مجلس اللوردات البريطاني قرر – باعتباره أكبر هيئة قضائية في بريطانيا – أن المدرسة كانت محقة، وأن منع الطالبة المسلمة من لبس الحجاب لا يُعد انتهاكاً لحريتها في التعبيرعن هويتها الدينية؟

العَلماني: هذه أمور مؤسفة لكنهم على كل حال يُبيحون أشياء لا نبيحها ويُعطون المواطن الحق في أن يُعبر عن رأيه فيها أو يمارسها.

الإسلامي: هذا صحيح، لكنهم أيضاً يُحرمون أشياء نحن نبيحها. إن مسائل التحليل والتحريم تعتمد على نوع الأيدلجية التي تحكم. فما تُحله أو تُحرمه يعتمد على كونها يهودية أو شيوعية أو نصرانية أو علمانية غربية أو إسلامية. فكل واحدة من هذه المعتقدات إذا كانت هي الحاكمة أباحت ما لا تبيحه الأخرى وحرمت ما لا تحرمه.

العَلماني: لكن العَلمانيين الغربيين يفخرون بأن حكمهم يمتاز بأنه يعطي اليهود والنصارى والمسلمين حرية دينية.

الإسلامي: لكن مواطنيهم من المفكرين الدينيين يردون عليهم قائلين بأنكم إنما تعطوننا من الحرية ما ترونه مناسباً بحسب تعريفكم العَلماني للدين ومكانته في المجتمع لا بحسب تصورنا نحن لديننا. إنكم تعطوننا من الحرية ما لا ترونه متناقضا مع العَلمانية.

وأقول. ونحن أيضاً نعطي أصحاب الأديان الاخرى من المواطنين وغير المواطنين ما نراه مناسباً بحسب تصورنا الإسلامي.