الصحفيون وتحريف الكلام
626
يُطلب منك أن تُلقي كلمة أو محاضرة أو تعد بحثاً، فتجلس تفكر في عناصر موضوعك، وفي كيفية ترتيبها، وفي أسلوب كتابتها، وفي المراجع المُعينة عليها. فتنظر في كتاب بعد كتاب، وتتأمل ما فيها، ثم تجلس لتعاني كتابة موضوعك فتنتقي له الألفاظ والعبارات التي تراها مناسبة، ثم تنظر فيما كتبت فتضيف كلمة أو جملة هنا وتحذف كلمة أو جملة من هنالك، وتستبدل بهذه الكلمة أخرى غيرها، وتنقل هذه الفقرة إلى مكان غير مكانها الحالي. ثم تريد أن تتأكد من صواب ما كتبت فتدفع به إلى بعض الأصدقاء لمراجعته، حتى إذا غلب على ظنك أن ما أعددته هو أقرب ما استطعت إلى الصواب شكلاً ومحتوىً، توكلت على الله فنشرت ما كتبت أو قرأته حيث دعيت لقراءته.ثم تقرأ في إحدى الصحف العربية ما نُسب إليك من كلام زعم أنه تلخيص لما ذكرت، فتكاد تُصعق. الأفكار ليست أفكارك، والكلام ليس كلامك والأسلوب ليس أسلوبك. وتجلس حزيناً أسفاً أن مئات الناس سيقرؤون هذا الكلام المنشور فينسبون إليك أفكاراً تنكرها، وأسلوباً تستهجنه، وكلاماً لا تشك في بطلانه. فماذا تفعل؟

عبثاً تحاول أن تصلح الصحيفة ما أفسدت، لأن سمعتها أهم عندها من سمعتك، وثقة قرأئها بها أهم عندها من ثقة الناس بك.

ألقيت مرة كلمة عن التعليم في مؤتمر علمي بموسكو، ثم أُنبئت بعد مدى أن إحدى صحفنا العربية حولت ما قلت إلى كلام سياسي في نقد حكومة ومهاجمة وزير بعينه، وهو رجل بيني وبينه نوع من الود، جاءني شقيقه يبلغني عتبه علي، فأكدت له أن ما كان يُنشر إنما هو محض إفتراء، وأنني حاولت أن أكذبه فلم أفلح.

وألقيت محاضرة باللغة الإنجليزية عن دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبدالوهاب استغرق من إعدادها أسابيع، ثم ألقيتها على جماعة من الأمريكان من غير المسلمين، وخرجت مسروراً لما وجدت من شدة إصغائهم، وجودة أسئلتهم، وما بدا من حرصهم على معرفة حقائق الإسلام.

وبعد مدة من إلقاء المحاضرة التي كانت مكتوبة، جاءتني منشورة في إحدى الإصدارات وعليها إسمي، ولكن ما بدأت ألقي عليها نظرة حتى تحول السرور إلى غضبٍ شديد، وأسى عميق. لقد عبث بالمقال عابث جاهل فأضاف إليه أشياء منكرة، وحذف منه أشياء مهمة، ووضع بعض فقراته في غير موضعها.

وبينما كنت مشغولاً بكتابة خطاب إلى الجهة المسؤولة عن ذلك الإصدار، إذا بي أفاجأ بفاجعة أخرى، أرسل لي أحد الأصدقاء قصاصة من جريدة عربية فيها كلام زعم كاتبه أنه تلخيص للبحث الذي قدمته، فإذا هو كلام من اختراع كاتبه لا علاقة له بموضوع المحاضرة، وإذا هو من نوع الكلام الذي يمكن أن يكتبه الإنسان من غير بحث ولا جهد ولا عناء، وإذا به يتضمن عبارات لا يجوز لمؤمن أن يتفوه بها. لكن الكاتب بعد كل هذا الإفتراء كان كريماً معي فزعم أنني أعمل في جامعتين اثنتين في وقت واحد، ونسبني إلى قسم علمي في هاتين الجامعتين، وهو قسم لا وجود له في أية جامعة من جامعات البلد الذي ذكره، ولا أظن أن له وجود في أي بلد عربي، بل ولا غير عربي.

لست أدري لماذا يستهين كثير من الصحفيين العرب هكذا بقضايا الفكر؟ أهو شيء يُدربون عليه؟ أهو مرض خاص بهم، أم هو بلوى عامة في صحافة العالم كله؟ وما الحكمة فيه؟ ماذا يستفيد الصحفي أو تستفيد الصحيفة من نسبتها لإنسان كلاماً لم يقله حسناً كان أو سيئاً؟

ألا يعلم هؤلاء الصحفيون أن بعض الناس يحنو على إنتاجه الفكري حنوه على إنتاجه العضوي، فيؤلمه أن يشوه ويؤلمه أن يجعله بعض الناس سبباً في الإضرار به، والله تعالى يقول (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)؟ كما يسوؤهم أن يُنسب إليهم ما لم ينتجوا حسنا كان ما نُسب أم سيئاً، فالله تعالى يقول (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله).

لكن الشكوى إلى الله

SAMSUNG
جريدة المسلمون

 


 

جريدة المسلمون العدد 443