الاتباع العـلمي والتبعيَّة الجاهلية (2)
وأما التبعية الجاهلية: فهي أن يُسلِم الإنسان قياده لإنسان يقوده بمجرد هواه. وهو إنما يُسلِم قياده له لمجرد الهوى؛ كأن يكون معجباً به، أو لكونه من أجداده، أو يكون مقلداً لغيره في قبوله لزعامتـه والسير خلفه، أو لغيـر ذلك من الأسـباب التي لا علاقة لها بالعلم. يقول – سبحانه -: {وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: ٠٧١].
إن الاتباع العلمي ليس اتباعاً لشخص لمجرد كونه الشخص الفلاني كما هو الحال في التبعية الجاهلية، وإنما هو اتباع له في الهدى الذي جاء به، والذي يعمل به ويدعو إليه؛ ولذلك كانت الدعوة إلى اتباع الرسل هي في الوقت نفسه دعوة إلى اتباع هذا الهدى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: ٨].
والاتباع العلمي بهذا المعنى الذي ذكرناه هو ركن لا يقوم الدين الحق إلا به؛ وذلك أنه لما كان عامة الناس لا يتلقون الدين من عند الله – تعالى – مباشرة، وإنما يتلقونه عن طريق رُسُلٍ يرسلهم الله إليهم، كان الدين الحق هو الدين المبني على اتباع هؤلاء الرسل؛ اتباعِهم في تلقِّي الدين عنهم، واتباعِهم في فهم هذا الدين، واتباعِهم في طريقة العمل به، واتباعِهم في اتباع من يأمرون باتباعه. يقول – سبحانه -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: ٩٨ – ٠٩]، ويقول أيضاً: {وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: ٥١].
ولأن هذا الاتباع اتباع علميٌّ، فإن الرسل ومَنْ أمر الله باتباعهم، يُذكِّرون الناس بهذه الحقيقة حين يطلبون منهم اتباعهم؛ فهذا أبو الأنبياء إبراهيم يقول في دعوته لأبيه:
{يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: ٣٤].
وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه:
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَاد * يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِـحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْـجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْـمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ *فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. [غافر: ٨٣ – ٤٤]
قد يقال: لكنَّ فرعون أيضاً ادَّعى هذه الدعوى في طلبه من قومه أن يتبعوه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: ٩٢].
نعم! هكذا ادَّعى فرعون، لكن انظر إلى الفرق بين حُجَّة فرعون وحُجَّة هذا المؤمن؛ ففرعون يطلب من قومه أن يتبعوه معلِّلاً ذلك بقوله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْـمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: ١٥ – ٤٥].
فهو إذن لا يحتجُّ في طلبه من الناس أن يتبعوه بهدى يهديهم إليه وينفعهم الله – تعالى – به، وإنما يعلِّل طلب اتِّباعه بِنِعَمٍ أعطاها الله إياه. نعم! لا علاقة لها بكونه على حق أو أنه يستحق أن يُتَّبَع.
وعندما قال يوسف – عليه السلام – لقومه:
{إنِّي تَرَكـْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: ٧٣ – ٨٣]، لم يعلِّل اتباعه لهم بمجرد كونهم آباءه؛ كما فعل أصحاب التبعية الجاهلية، الذين قال الله – تعالى – عنهم: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: ٤٠١]، وإنما علل هذا الاتباع بعلل علمية: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف: ٨٣].
إن من أقوى الأدلة على أن هذا الاتباع اتباع علمي وأنه ركن لا يقوم الدين الحق إلا به، قول الله – تعالى -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: ٦ – ٧].
ففي هذا الدعاء الذي هو أعظم دعاء يدعو به الإنسان في حياته، فإننا لا نسأل الله – تعالى – أن يهدينا إلى الصراط المستقيم وحسب، وإنما نَصِفُ هذا الصراط الذي نريد الهداية إليه بأنه صراطُ الذين أنعمَ الله عليهم لا الذين غضب الله عليهم من الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به، ولا الذين عملوا بغير علم. إن الصراط المستقيم ليس صراطاً نظرياً، وليس صراطاً يُعرَف بمجرد النصوص، وإنما هو صراط واقعيٌّ سار عليه أناس معيَّنون، لا يكون الإنسان سائراً عليه إلا إذا كان متبعاً لطريقهم: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِـحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}. [النساء: ٩٦]
وبما أن صاحب الاتباع العلمي إنما يتبع الهدى الذي جاء به مَنْ يتبعه، فإن اتباعه له لا يكون تقليداً أعمى، ولا يكون مجرد حفظٍ لا فقه فيه، وإنما يكون اتباعاً على بصيرة؛ ولذلك فإن صاحبه يُعمِل عقله، ويتدبر في الحق الذي هداه الله إليه، وكلما كان اتبـاعه أقـرب إلى العلميـة كان تدبُّـره أكثر؛ انظر إلى حال أئمة أهل السُّنة كيف ملؤوا الدنيا علماً بتدبُّرهم لكتاب الله وسُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، واسـتنباطِهم من نصوصهمـا من العلم ما هـداهم اللـه به إلـى حـل مشـكلات النـاس الواقعيـة، وما هداهـم به إلـى الـرد علـى الشـبهات التي يثيرها المنافقون، وما هداهم به إلى حُسْنِ الكلام الذي يذكِّر الناس بربهم، ويحبِّب إليهم نبيَّهم، ويرقق قلوبهم.
إن الصراع بين الاتباع العلمي والتبعية الجاهلية، صراع مستمر. فإذا كان أصحاب الاتباع العلمي يظلون مستمسكين بكتاب الله وسُنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهدي الصالحين من عباد الله، فإن أصحاب التبعية الجاهلية تتفرق بهم السبل فيتبعون في كل عصر، بل في العصر الواحد أنواعاً ممن يتخذونهم سادة يصدرون عن رأيهم ويقتدون بهم. ومن أوضح الأمثلة على ذلك في عصرنا، اتخاذُ بعض الناس المفكرين الغربيين سادة لهم، واتخاذ طريقِهم مثلاً أعلى في المعتقدات والأخلاق وسائر أنواع السلوك. ولكن بما أن اتباعهم لهم إنما هو تبعية جاهلية فإنهم يسيرون خلفهم سَيْرَ الحيوانات التي لا تعقل. يقول الغربيون – مثلاً – إنهم نظروا في دينهم نظراً متحرراً (لبرالياً) فوجدوا فيه من الأخطاء والتناقضات ما جعلهم يشكُّون فيه، وما دعاهم لأن يستبدلوا به آراءهم البشرية ويجعلونها هي الحاكمة في مسائل السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وغيرها، فيأتي هؤلاء المقلِّدون العميان ليقولوا مثل قولهم عن ديـــن لا يحسنون حتى مجرد قراءة نصوصه، ودعك من فهمها أو المقدرة على نقدها.