القيم التي أشعلت الثورة 2/1
520

مقال كتبه الشيخ جعفر بمناسبة مرور سنة على ثورة أكتوبر

جريدة الميثاق الإسلامي، العدد 79 ، 25 جمادى الثاني 1385 هـ الموافق 20 أكتوبر 1965م

من المؤسف أن كثيراً مما كُتب عن ثورة أكتوبر كان إما وصفاً لمظاهرها من ندوات وإضرابات أو تعبيراً عن الإعجاب واسباغ كل أوصاف المدح عليها، أو ادِّعَاء لصُنعها ومحاولة لاحتكار ملكيتها بشئ من الحق وبكثير من الباطل أحياناً وأحياناً.

وقليلون هم الذين تجاوزوا هذه السطوح وحاولوا النفاذ إلى أغوار تلك الثورة المجيدة، وفيما يلي من كلمات أحاول أن أضيف جهداً متواضعاً إلى جهود هذه القلة.

لو أن ثورة اكتوبر كانت من الحوادث التي ينتهي أمرها بانقضاء الفترة الزمنية التي شغلتها فلن يبقى منها إلا تاريخها الذي يُقرأ للتسلية.  ولكنها من الحوادث التي تظل حية حتى بعد انقضاء وقتها.  ولهذا فإننا لا نكتب عنها بقلم المؤرخ المسجل ولكن بقلم المصلح الاجتماعي الذي ينظر إلى الحوادث الماضية ليستخلص منها العبر لحياته الراهنة والمستقبلة.

 العوامل التي أدت إلى حكم العسكر

لقد كانت هَبة أكتوبر ثورة على حكم استبدادي، فكيف جاء هذا الحكم؟ يقولون إن حكومة عبود لم تأت لتحقق هدف فكر قادتها. إنَّ هؤلاء القادة لم يرتكبوا أدنى هول أو مغامرة كما يفعل سائر العسكريين الذين يحدثون الانقلابات، وإنما هم أناس أيقظهم عبدالله خليل، فعل هذا لأنه يخشى على حكومته من مؤامرات المعارضة. ولكن لئن كانت هذه بعض الأسباب فإنها ليست كلها، إذ أن عبدلله خليل ما كان ليفكر والعساكر الذين جئ بهم ما كانوا ليقبلوا لولا وجود ظروف معينة ساعدت على هذا أو ذاك.

خيبة أمل

أول هذه العوامل هو خيبة الأمل التي انتابت الناس في الحكم الوطني. لقد كانوا يظنون أنه بمجرد ذهاب الإنجليز. وأخذ السودانيين لأماكنهم ستزول كل الشرور التي اشتكى منها الناس وربطوا وجودها بوجود المستعمر. ولكن مع الأسف لئن ذهبت بعض الشرور بذهاب جنود الاستعمار وموظفيه فلقد بقي الكثير منها بل لقد جَدَّت شرور أخرى.

مفهوم خاطيء للديمقراطية

واحتار الناس في أمرهم، وهنا وجدوا من يقول لهم إن الديمقراطية الغربية هي سبب البلاء. إن الديمقراطية الغربية تعطيكم حرية التعبير والكلام ولكنها تحرمكم الغذاء والكساء، وأنتم إلى هذا أحوج منكم إلى الثرثرة الفارغة.

لقد كان مفهوم الناس للحرية هو المفهوم الفطري الصحيح. كانوا يشبهون سليب الحرية بالطائر الحبيس مهما وفرت له أنواع الطعام والشراب فهو حزين كسيف البال ما دام محروماً من التحليق في آفاق السماء مع سائر أمم الطير.

ولكن المفهوم الجديد الذي نشره الشيوعيون انطلاقاً من مبادئهم ودفاعاً عن الأوضاع القهرية في أوطان الشيوعية.. قال لهم إن التحليق إنما هو من أجل الطعام والشراب، فإذا توفر لك هذا فلا يضيرك أن تحبس في أضيق الأقفاص. فالمهم أن يرتفع مستوى المعيشة، المهم أن يحرز تقدماً اقتصادياً مضطرداً وهذا كله لا يتم في ظل ديمقراطية غربية وأحزاب متعددة وصحافة مفتوحة الأبواب لكل رأي.

ذلك كان العامل الثاني، وهو العامل الذي مهد للديكتاتوريات في الشرق الأوسط كله لأنه أعطاها السند الفكري والفلسفي لاستبدادها. ولهذا ما من دكتاتور –حتى عبود- إلا وتحدث عن زيف الديمقراطية الغربية وقلل من أهمية حرية الكلام عن الرفاهية وجعل التطور المادي الذي لا يمل تكرير أرقامه على مسامع الناس مبرراً لطغيانه.

وجود الدكتاتوريات حولنا

أما العامل الثالث فهو وجود الدكتاتوريات في الشرق الأوسط وفي مصر بالذات والدعاية الكبيرة التي بذلتها لتزيين حكمها وتكبير منجزاتها والترويج لمثل أوضاعها حتى سمعنا بعض الناس قبيل الانقلاب يقولون ياليت لنا دكتاتور مثل فلان، إن شعبه لذو حظٍ عظيم.

وجاء الدكتاتور وألغى الألقاب وحلَّ الأحزاب وأعلن أن مهمته محصورة في تطهير الجو من الفساد والتمهيد لديمقراطية صحيحة تناسب واقع الأمة. وانطلت الفرية المكرورة على بعض الناس فصفقوا واستبشروا، ولكن حبل الكذب قصير، فما هي إلا أيام معدودة حتى أسفرت حقيقة الحكم العسكري عن وجهها الكالح، وبدأ الناس يتلفتون إلى طريق الخلاص.

فكيف استبان هذا الطريق؟

القيم التي أدت إلى الثورة

إن نظرة الناس إلى الحياة أو فلسفتهم هي التي تحدد نوع القيم التي يعتقدونَها، وقيم الناس هي التي تحدد لهم ماذا يحبون وماذا يكرهون، فيم يرغبون وعم ينفرون. ثم تأتي الوسائل لتحقيق الرغبات. إذن فتحليل التغيرات الاجتماعية بمظاهرها أو بالوسائل التي أدت إليها تحليل ناقص لأن الدوافع الإنسانية تأتي قبل الوسائل والمظاهر ولأن إرداة التغيير دائماً تسبق التغيير نفسه.

قلت إن فلسفات الناس (وأنا استعمل كلمة فلسفة هنا بالمعنى العام لها الذي يشمل كل دين ونحلة وأيدلوجية ونظرة إلى الحياة) هي التي تحدد قيمهم، ولكن من المعروف أن هنالك قيماً ضرورية لصلاح المجتمع ضرورة التنفس للكائن الحي، ومن المعروف أنه ما كل فلسفة تستطيع -وإن ادعت ذلك- غرس هذه القيم في النفوس، بل إن بعض الفلسفات بطبيعتها تساعد على إضعاف هذه القيم وإن دعت إليها بظاهر من القول. وأقول تساعد على اضعافها لا محوها لأن هذه القيم لحسن الحظ فطرية، ولهذا فإن المجتمع الذي يترك على فطرته ولا يتأثر بأي دين أو فلسفة يكون أشد استمساكاً بها من مجتمع لم يعرف من الفلسفات إلا ما يعمل على هدمها.

قيم أساسية

الصدق، الأمانة، حب العدالة وكراهية الظلم، حب التحرر وكراهية الاستعباد. هذه أمثلة للقيم التي قلت إنَها ضرورية وأساسية.

وأنت إذا تدبرت كل الفلسفات التي تحاول إصلاح المجتمع وجدتها –رغم تباينها- تفترض إيمان الناس بهذه القيم. فالذي يتحدث عن الاشتراكية والماركسية مثلاً ويصورها حلاً حتمياً لمشاكل الطبقات الكادحة، يفترض أن هذه الطبقات تكره الظلم الواقع عليها. بل ويفترض أن بعض الذين لا يقع عليهم الظلم مباشرة يكرهون الظلم لذاته، وهم مستعدون للعمل لإزالته مهما كلفهم هذا العمل من مشاق.

ولكن الماركسية لا تستطيع خلق هذه القيم في النفوس ولا تستطيع انمائها بل إنها لتعيش إما على الرواسب الفطرية لهذه القيم أو على ما انتجته مذاهب وأديان أخرى، بيد أنه ما أن يستحكم الإيمان بالشيوعية من قلب إنسان حتى يأخذ إيمانه بهذه القيم في الذبول والاضمحلال.

فما هي القيم التي أدت إلى الثورة التي نحمدها؟ وما مصادر هذه القيم؟ وما هي المذاهب والأفكار التي تساعد على ترسيخها وتنميتها والتي تعمل على اضعافها وتقويضها؟

ثورة خُلقية أولاً

من الملاحظ أن كراهية السودانيين للحكم العسكري كانت أشد، وسخطهم كان أوضح من كراهية وسخط الشعوب التي ابتليت بأكثر مما ابتلينا به ومن الغريب والرائع في هذه الظاهرة أن السخط كان في الأساس سخطاً على إهدار القيم الخلقية، فأنت تجد الرجل الفقير والعامل البسيط لا يتحدث عن الظلم المادي الواقع عليه ولكنك تجده ثائراً غاضباً على فجور الطغمة الحاكمة واستهتارها بكرامة البشر، وتجده ثائراً غاضباً على الكذب الذي يُذاع، وعلى مظاهر الكبرياء وعلى اسناد الأمور إلى غير أهلها.. وهكذا..

لم تكن صدفة

ولهذا لم يكن من باب الصدفة أن يتجه الناس إلى أماكن الفجور يحطمونها قبل غيرها، ولم يكن من باب الصدفة يهتفوا بتغيبر بعض الشخصيات التي ارتبط اسمها بالاستهتار.

فمن المميزات الأساسية لهذه الثورة والتي يغفلها كثير من الناس أنها كانت ثورة نبيلة الدوافع، لقد كانت ثورة من أجل الكرامة الإنسانية، وهَبَّة للدفاع عن مكارم الأخلاق ولم تكن كما هو الشأن في كثير من الثورات التي قد يكون لها من المظاهر ما لثورتنا مجرد هيجان عاطفي مظلم الدوافع لا يلبث أن يستبدل بآخر أسوأ منه لكنه في مصلحة فئة معينة كانت مظلومة في الوضع المباد.

إذا كانت هذه الدوافع هي دوافع ثورتنا فمن المؤكد لدى كل من ينظر إلى المجتمع السوداني أن قيمه الأساسية إنما أتته من فطرته السليمة التي لم تلوثها الفلسفات المنحرفة ومن الإسلام دين الفطرة الذي ركز هذه القيم وقوى دعائمها حتى إن كثيراً من الذين تخلوا عنه ليحتاروا أو ليتوهموا مع فلسفات أخرى لم يستطيعوا التخلص من قيمه التي انتقلت إليهم من البيئة ومن التربية.

القيم التي أشعلت الثورة 2/2