القيم التي أشعلت الثورة 2/2
1,824

جريدة الميثاق الإسلامي، العدد 80، 28 جمادى الثاني 1385 الموافق 24 أكتوبر 1965م

قلنا إن قيم الناس ومدى إيمانهم بها هو الذي يحدد سلوكهم في الحياة، وقلنا إن كل من ينظر إلى الأمة السودانية نظرة علمية موضوعية لا يمارى في أن قيمها الأساسية الصالحة تفيض عليها من النبع الإسلامي، وقلنا لذلك أن القيم التي أشعلت الثورة كانت قيماً إسلامية.

 

إذن فمن الطبيعي أن يكون رواد تلك الثورة أكثر الناس إيماناً بالفلسفة التي أعطتنا تلك القيم.  من الطبيعي أن يكون أكثر التنظيمات قرباً من الإسلام أكثرها صلابة في محاربة الطغيان، وأن يكون أكثر الأفراد استمساكاً بالإسلام في التنظيمات والأحزاب غير الإسلامية أكثرهم تجاوباً مع هذه الثورة.

 

وهذا الذي كان.. فتنظيمنا الإسلامي كان رائد هذه الثورة.  بدأ مجاهرتها بالعداء في الجامعة يوم أن كان بعض الناس يحسب أن زمان المعارضة قد ولى وأن انتقاد حكم تسنده الدبابات والمدافع عمل طائش والقاء بالنفس في مواطن الهلاك.

 

واستمر في المقاطعة السلبية والمعارضة الإيجابية حتى كان عام 1964 حيث عزم على أن يخوضها معركة جهاد مقدس إن لم تأت بنصر قريب فسوف تخضع الحكم العسكري وتجرئ بقية الناس على معارضته.  فبدأت لهذا سلسلة البيانات والمحاضرات والندوات، ودبت في الأمة روح جديدة وشاء الله أن تتلاحق خطوات النصر، وأن تتابع أفواج المنضمين إلى ركب المناضلين، حتى كُتب للأمة نصرها الأكبر في يوم الواحد والعشرين.

 

لقد قلت ليس من همي تسجيل الوقائع وتصوير المظاهر فأنا إنما أذْكر هذا عرَضاً لألفت النظر إلى ما يكمن وراءه من حقائق.. والحقيقة التي ينبغي أن لا تُنسى هنا هي أن الذين كرهوا الطغيان كراهة إيجابية والذين قادوا المعركة ضده فمنهم من استشهد ومنهم من أصابه القرح، ومنهم من كان يتوقع هذا أو ذاك أو فتنة السجن والعذاب هي أشهر وأكبر.  أقول إن هؤلاء لم يكونوا من أصحاب المنافع الذاتية الرخيصة الذين إنما يُعادون العسكر لكي يضمنوا مصالحهم ثم لا يعنيهم من أمر الحرية والكرامة الإنسانية شيء.. كلا إنما كانوا شباباً مجاهداً متجرداً مضحياً عازماً على إزالة الباطل مهما كان الثمن.

 

بل إن معظم الذين سخطوا وهتفوا وظاهروا وتصدوا للرصاص جرحاً وقتلاً كانوا يعلمون علم اليقين أن الانتصار على الحكم العسكري لن يعود عليهم بنفع ذاتي ولكنهم كانوا يتوقعون –وحق لهم أن يتوقعوا- أن يؤول أمر الوضع الذي جاءت به ثورتهم إلى جماعة من نوعهم تبلور عواطفهم وأمانيهم في فلسفة رشيدة تستقي من نفس النبع الذي فجر قيم الثورة، وتقدم على الحكم لا إقدام الهلوع الحريص على مظاهر السلطة واحتكار القوة والتمتع بامتيازاتها، ولكن إقدام مخلص طُلب إليه أن يحمل أمانة عظيمة فهو يتردد في حملها، ويُشفق على نفسه وعلى الناس من التصدي لها، ولكن ما أن يعزم ويضع العبئ على عاتقه حتي يستفرغ كل جهده في الوصول به إلى حيث يريد أصحابه.. لا يحيد عن الطريق، ولا يبطيء الخطو، ولا يغش الأمة، ولا يفكر في الاستئثار دونَها بشيء من حقها الذي كلفته برعايتها.. ذلك ما كان يتوقعه الثوار المخلصون.  ولو تم لهم ما أرادوا إذاً لاستقبلنا الذكرى الأولى لثورتنا ونحن أكثر بهجة، وأقوى ثقة، وأمضى عزيمة..
ننظر إلى العام الذي مضى من عمر ثورتنا فيخيل إلينا أنه بفضل ما تم فيه ليس عاماً واحداً ولكنه دهر بأكمله يفصلنا فصلاً كاملاً عما سبقه، حتى لتغدو أيام الحكم العسكري والأحوال والتي سبقته ومهدت له تاريخاً بعيداً قديماً يعسر على المرء أن يتذكره..

 

ولكن دعني وإياك من هذه الأماني العذبة وتعال نهبط إلى الواقع الأليم.  فالذي حدث أنه لم يتم للمخلصين الثائرين ما أرادوا، فها نحن نستقبل الذكرى الأولى لثورة أكتوبر سنة 1965 ولا يملك أحدنا إلا أن يشعر بأنه يعيش في مثل الإرهاصات التي سبقت انقلاب نوفمبر سنة 1958.  إن الذين ناموا خلال الحكم العسكري استيقظوا بعده ليواصلوا عبثهم وكأن شيئاً لم يحدث.

 

فهل هذا ما كانت تطمح إليه أبصار المخلصين من الثوار؟  اللهم لا.. اللهم لا

 

فكيف جاء هذا الوضع المعكوس؟ ولِمَ ذهب بأجر الثورة كله أولئك الذين مهدوا بأفعالهم للحكم العسكري وهم اليوم يمهدون الجو لمثله؟  لم كان هذا؟

 

وإلى متى وحتى متى نظل نسأم من حكمنا الديمقراطي ونخاف من شبح الحكم الدكتاتوري؟

 

تلك أسئلة ينبغى أن نجهد أنفسنا في البحث عن جوابها الصحيح وينبغي أن نتدبر الإجابة بعد الحصول عليها وأن نعي درسها وعياً كاملاً.

 


ولست أزعم أنني وحدي قادر سواء في هذه الكلمات أو غيرها على العثور على الإجابة الصحيحة ولكنني سأشارك برأيي وأدعو من له رأي أن يبديه حتى نقدر من الرأي الراجح صحته