في مجال النقد الذاتي
426

جريدة الميثاق الإسلامي، العدد: 557 الثلاثاء 4 يوليو 1967م

إنني مقتنع منذ زمن بعيد بأن تخلف هذه الأمم المسماة عربية وإسلامية ليس فقط تخلفاً مادياً اقتصادياً، ولكنه في الأساس تخلف أخلاقي.  وما لم تتزود بأسلحة الصدق والأمانة وابتغاء الحق والشجاعة في قوله والعمل له، فلن نرتفع من هذا هذا الحضيض حتى ولو انسكبت علينا وامتلأت حتى فاضت بلادنا بكل ما تنتجه مصانع الذخيرة في العالم.

إن الأمر الطبيعي والسلوك الخلقي أن يبتغي الإنسان من عمله إحقاق الحق وأبطال الباطل وجلب الخير النافع له ولأمته.  ولكن الحكام عندنا لا يعملون لهذا وإنما يعملون ليقال إنهم عماراً، وليشاع أنهم عملوا وليكثر المدح والثناء عليهم بأنهم عملوا.

فإذا انعكست الأوضاع هكذا وأصبح القصد من العمل هو جلب الثناء، شاعت روح الأنانية بكل مضارها وسعى كل فرد وكل  حزب وكل قوم لأن يحصروا الثناء فيهم والتقليل من شأن غيرهم.

ومادام العمل ليس مقصوداً لذاته، وإنما للثناء الذي يجلبه من العامة، سعى كل فرد وكل حاكم لأن يعمل أو يتظاهر بأنه يعمل، أو يصرح بأنه سيعمل.  كل ما يظن أنه مجلبة للثناء العاجل حتى ولو كان موقناً بأن فيه هلاكه وهلاك أمته في المدى الآجل.

وما دام العمل ليس مقصوداً لذاته انتفت عن العاملين صفة الواقعية والعلمية لأن الأنسان لا يكون واقعياً ولا علمياً إلا إذا كان صادقاً وجاداً في ابتغاء النتائج الحقيقية التي ترجى عادة من مثل عمله.  إنه يخشى إن أصبح واقعياً أن يقال أنه جبان، ويخشى إن أصبح علمياً أن تتأخر النتائج وفي كلا الحالين لا يمدح ولا يثنى عليه.  والثناء العاجل هو هدفه وغايته إذن فلتذهب الواقعية والعلمية إلى الجحيم.

على أنني أعلم أن بعض الجبناء حقاً والمخذلين المثبطين حقاً يتعللون بالواقعية والعلمية ستاراً يحجبون به سوء نياتهم وخور نفوسهم.

ولكن هل كتب علينا ألا نختار إلا بين طامع في الثناء يندفع عن جهل، وجبان يتخذ من الواقعية حجاباً.  اللهم اجعل لنا مخرجاً ثالثاً.

وإذا كان القصد من العمل هو المدح والثناء فليكبر العمل الصغير، وليخدع الناس بأعمال وهمية لم تحصل، ولتصبح الدعاية أضخم من العمل وليكن القول أهم من الفعل لأن أقصر طريق وأسلمه إلى المدح والثناء أن يشاع أنك عملت كذا وكذا مما لم تبذل فيه جهداً أو لم تحرك إليه ساكناً لقول القرآن الكريم في صفات اليهود الذميمة أنهم (يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)

وإذا فسدت الأخلاق إلى هذا الحد خرست بعض الألسنة والأقلام عن قول الحق وساير بعضها تيار الباطل الشائع الذي يعلم أنه باطل، ولكنه يعلم أن معارضته تجلب السخط، وأخفى وهزئ من الحقائق التي يعلم أنها حقائق، لأنه يعلم أن التصريح بها يجلب السخط.

لقد أصبحنا نعيش في عوالم ثلاثة: عالم الأقوال المذاعة المكتوبة، وعالم الهمس مع الأصدقاء في الدوائر المحدودة، وعالم الضمائر المحجوبة.  

ففي العالم الأول يكثر تزوير الحقائق وإخفاء الواقع ويكثر الفخر والاعتداد بالنفس، والإفراط في التهوين من شأن الأعداء والمبالغة فيما ستلحقه بهم من خسائر وأضرار.  وكل هذا يقال بحمية جاهلية وحتمية خرافية.  وفي العالم الثاني نعترف بأن كثيراً مما يقال في العالم الأول كذب وإفراط ومبالغة ضارة. وفي العالم الثالث ينطوي كثير من الناس على خوف وفزع وشك في كل ما يقال حتى ما كان من حقائق.  وما دام عالم الضمائر هو أهم هذه العوالم لأنه هو الذي يتحول ما فيه إلى واقع عملي فإن حالنا الحقيقية سيئة للغاية.

إننا في حاجة إلى ثقة حقيقية تكمن في الضمائر، محتاجون إلى أن ننطوي على أنبل البواعث والدوافع، محتاجون إلى إزالة هذا الاختلاف المشؤوم بين ظاهر قولنا وواقع حالنا.

يا أمة العرب يا ذراري المسلمين في العالم مالي أرى أخلاق اليهود التي لعنوا بسببها قد انتشرت فيكم؟ وأراكم مع هذا تتوقعون أن ينصركم الله عليهم فإذا لم يفعل ضجرتم وسخطتم وازددتم عن الله بُعداً !! لماذا ينصركم الله على قوم استويتم وإياهم في سوء الأخلاق وفاقوكم في العدة والعتاد؟  إن الذين ينصرهم الله رغم قلة العدد، ويؤيدهم بجنوده التي لا تغلب هم الذين نصروا الله بالاستسلام له والالتزام بأمره (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)