آيات الصيام .. والدعوة إلى الإسلام
2000-01-03
128

الإسلام دعوة ومنهاج : دعوة إلى الله ، ومنهاج لتبليغ هذه الدعوة ، سواءاً كان التبليغ لأناس مؤمنين ، أو لأناس لم يؤمنوا بعد ، ومنهاج البلاغ هذا ليس مبيناً بالوصف فقط كما في مثل قوله تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [النحل : 125] ، بل وبالمثال أيضاً. والمثال يكون بالطريقة التي يدعو بها الخالق – سبحانه وتعالى – عباده – كما سنرى في آيات الصيام – وبالطريقة التي يدعو بها الرسلُ أقوامهم ، كما في مثل قوله تعالى عن نوح : {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين … } [هود : 25 – 34] والتي يدعو بها الذين ساروا على سنتهم من الإنس كما في مثل قوله – تعالى – عن مؤمن آل فرعون : {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ..} [غافر : 28 – 34] ، بل ومن الجن كما في قوله تعالى : {وإذ صرفنا إليك  نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا …} [الأحقاف : 29 – 32] .

ومثل الدعوة في هذا كمثل الصلاة والصيام والحج ؛ فكما أننا نعرف الصلاة والصيام والحج معرفة علمية نظرية ، ثم نصلي كما عَلِمْنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي ، ونأخذ عنه مناسك حجنا ، فكذلك نعرف طرق الدعوة معرفة نظرية علمية ، ثم نعرفها معرفة عملية بمعرفتنا للطرق التي دعا بها أنبياء الله – تعالى – ودعا بها سائر عباده الصالحين الذين قص الله – تعالى – علينا قصصهم في هذا المجال . لكن المسائل التي بُينت لنا طرقُها العملية نوعان : نوع لا يتأتى فعله إلا من العباد كالصلاة والزكاة ، ونوع نسترشد فيه إلى جانب ذلك بالطريقة التي يعامل الله – تعالى – بها عباده ، كطريقة الدعوة إليه ، وآياتُ الصيام التي هي موضوعنا في هذا المقال خيرُ مثال على هذا النوع الأخير .

إن الغاية من هذه الآيات هي أمر المسلمين بصيام شهر رمضان ، ولو شاء الله – تعالى – لأمرنا بها أمراً مجرداً لا استعطاف فيه ولا تعليل ؛ فهو الرب ونحن عبيده ، ومن حقه أن يأمرنا بما شاء ، ومن واجبنا أن نطيعه بغير سؤال ولا مراء .

لكن الله – تعالى – أعلم بطبيعة النفوس التي خلقها ، وبأحسن الطرق إلى هدايتها وعطفها على قبول الحق والعمل به . لذلك نراه – سبحانه – لا يأمر عباده بالصيام أمراً مجرداً بل يسوق كل الحقائق التي من شأنها أن تعطف قلوبهم إلى الخير الذي يأمرهم به .

يقول – تعالى :يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.  [البقرة:183- 187]

فيخاطبهم بأحب أوصافهم إليهم . وهذا الخطاب وإن كان خطاباً عاماً إلا أنه يجعل المستمع الفرد يُؤَمِّل في الدخول في سلك هؤلاء الذين شهد الله – تعالى-   لهم بالإيمان. وهل بعد الشهادة الإلهية من شهادة ؟ وإذا كان يرجو أن يكون  مؤمناً حقاً بعمله بما كتب الله عليه ، فما أقل الصيام من ثمن لهذا الإكرام!

كما كُتب على الذين من قبلكم

بما أن الإنسان قد يتردد في الإقدام على أمر يراه صعباً ولا يرى له فيه سلفاً ، فإذا تبين له أن الأمر قد جربه أناس قبله ، فأغلب الظن أنه سيقول لنفسه : إذا كان الصيام قد كتب على من قبلنا فصاموا ، فما الذي يمنعنا نحن من أن نصوم ؟ وإذا لم نكن أول من جرب الصيام بل جربه أناس قبلنا ونجحوا في التجربة ، فما الذي يمنعنا نحن من أن ننجح كما نجحوا ؟

{لعلكم تتقون} 

فالغاية من الصيام ليست تعذيب الإنسان بمنعه من الطعام والشراب والنكاح ، وإنما أتى هذا المنع وسيلة ضرورية لغاية شريفة هي التقوى ، والتقوى هي سبيل النجاة من عذاب الله ؛ وهي من ثَمَّ سبيل الفوز بجزائه ومرضاته ، ولهذا كانت التقوى هي الغاية التي تحققها كل عبادة من العبادات التي أمرنا الله – تعالى – بها .

{أياما معدودات }

 لم يكلفنا الله – تعالى – بصيام السنة كلها ولا   بأكثرها ، وإنما هي ثلاثون يوماً من أيام العام التي تبلغ أكثر من ثلاثمائة وخمسين يوماً . وكلمة معدودات تعبر عن قلة هذه الأيام . والمؤمن يقول لنفسه : ولماذا لا   أصوم أياماً معدودات وأكسب التقوى التي وعد الله بمنحها لمن يصومها ؟

{فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}

 ولأن الغرض  من الصيام هو التقوى لا مجرد تعذيب البدن ؛ فإن الله – تعالى – قد أعفى من   صيام هذه الأيام المعدودات من كان مريضاً أو على سفر ؛ لما قد تسببه هاتان   الحالتان من مشقة زائدة على الأمر العادي .

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}

والأيام المعدودات التي أمرنا الله   بصيامها هي أيام شهر لا كسائر الشهور ، إنه شهر  رمضان الذي شرفه الله – تعالى-  بأن أنزل فيه القرآن ، وذلك أنه كما أن الله – تعالى – أعلم حيث يجعل رسالته   بالنسبة للبشر ، فهو – سبحانه – أعلم حيث ينزل رسالته بالنسبة للأزمنة ؛ لأنه كما   أن بعض البشر أفضل من بعض فإن بعض الأزمنة والأمكنة أفضل من بعض {وربك يخلق ما يشاء ويختار}[القصص : 68]. ولهذه المناسبة القوية بين القرآن وشهر رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل في كل  رمضان ، ثم إنه عرضه عليه مرتين في العام الذي توفي فيه صلى   الله عليه وسلم . ولهذه المناسبة أيضاً فإنه يستحب لنا الإكثار من تلاوة القرآن ولا سيما في صلاة التراويح .

{هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}

هذه أهم خصائص القرآن، الكتاب الذي أنزله الله في شهر رمضان. إنه هدى للناس ، وإنه بينات، بينات من الهدى ومن الفرقان .

{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}

إنها لحكمة بالغة أن تنزل هذه الآية الكريمة ضمن آيات الصيام . إن في الصيام شيئاً من المشقة ، ما في ذلك من شك ؛ لكن الآية تؤكد لنا أن هذه المشقة ليست مرادة لذاتها ، وإنما هي مشقة قليلة محتملة تجلب تيسيراً روحياً كبيراً ، هو نيل التقوى ؛ فهي إذن ثمن قليل يدفعه الصائم لنيل عوض كبير. ولما كان المراد من أوامر الله ونواهيه كلها هو اليسر لا  العسر ؛ فقد أذن – تعالى – بالفطر لمن كان في حال يكون الصيام فيه عليه عسيراً .

لكن اليسر ليس شيئاً متروكاً لأهواء الناس الذين لا يحيط علمهم بكل عواقب الأعمال والتروك ، وإنما ينظرون إلى بعض جوانبها دون بعض ، وإلا فلو ترك أمر اليسر لتقديرات الناس لقال أكثرهم : إن الصيام عسر لا يسر، وما دام الأمر كذلك وما دامت أوامر الله – تعالى – ونواهيه مبنية كلها على اليسر ، فإن المنهج الصحيح للاختيار بين آراء المجتهدين هو أن يختار ما دل الدليل على أنه أقرب للحق ؛ لأن ما كان أقرب إلى الحق فهو الأقرب إلى اليسر . أعني أنه لا ينبغي للعالم أن يجعل ما يعتقده يسراً هو المعيار الذي يفضل به اجتهاداً على اجتهاد ؛ لأن ما يظنه يسراً قد يكون في الحقيقة عسراً ، بل عليه أن يبذل جهده في النظر في أدلة المجتهدين ليفضل ما كان منها أقرب للحق موقناً بأن ما كان أقرب للحق ؛ فهو الأقرب إلى اليسر.

أعاننا الله وإياكم على صيام شهر رمضان ، وجعلنا وإياكم من خير الدعاة إلى الإسلام .