لا تعلق بالأشخاص: معالم في طريق الاستمساك بالمباديء
جريدة الميثاق الإسلامي، العدد 637، 10 أكتوبر 1967 م
قبل فترة نشرت الميثاق خبراً صحيحاً عن مرض الرئيس جمال عبدالناصر. وقبل قرون أشاع المشركون خبراً كاذباً عن مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد.
وفي كلا الحالتين ذهل بعض الناس للخبر واضطربوا ونالهم شيء من اليأس.
فماذا كان التعليق على هؤلاء الذين أَطَار الخبر لُبَّهم؟
أما في حال المسلمين الأوائل فإن كتب السيرة تروي أن أنساً بن النضر مرَّ على بعض الصحابة فوجدهم جالسين محزونين فسألهم فقالوا مات رسول الله. فكان جوابه فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد. فقاتل حتى قُتل ووجد فيه بضع وسبعون ضربة ولم تعرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
وجاءت آيات القرآن الكريم معاتبة بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على ما كان منهم من الهلع والجزع كما يقول الطبري. قال تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)
وأما في حال العرب الأواخر فإن بعض الذين يعلمون صحة الخبر لم يعاتبوا أولئك الذين استنكروا مرض الرئيس وهلعوا وجزعوا، بل عدوا هذا منهم سلوكاً طبيعياً مرضياً ولكنهم استكثروا على بعض الناس أن يذيعوا هذا الخبر الذي أسموه شائعة رغم علمهم بصحته لأن في إذاعته توهيناً لروح الجماهير المؤمنة بقيادة الرئيس.
حقاً إن الفرق بين الحالين شاسع! ولكن لا عجب، فتلك أمة مدعوة لأن تؤمن برسالة تحرك كل فرد فيها حركة ذاتية نحو النضال المستميت في سبيل إقرار حقائقها. أمة لا يحركها أو يلنها عن الحركة حياة شخص ولا موته، ولو كان هذا الشخص محمدأً الذي حمل رسالة الله إليها فما إلا رسول يؤدي مهمته ويذهب كما ذهبت الرسل من قبله. إن الرسالة ليست مرتبطة بوجود شخص فكيف إذن يرتد عنها بعد موته من كان يؤمن بها في حياته؟
وهذه جماعة مدعوة لأن تؤمن بشخص يدفعها للحركة من وراء أو يجذبها من أمام فإذا مرض أو مات توقف دفعه وجذبه فسكنت حركة الجماعة المؤمنة بمحركها الأول فلئلا تسكن حركة المؤمنين به ولئلا يرتدوا على أعقابهم بعد موته –فارتداهم على أعقابهم بعد موته حتمي- لهذا يلام الذين ينشرون خبر مرضه ويقال للجماهير كذباً إنه لم يمرض وربما قيل لها إنه لن يموت ولكن هيهات فبالأمس مات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وغداً يموت جمال عبدالناصر والفرق بين نتائج الموتين عظيم.
أما الأمة المستمسكة برسالتها فقد استمعت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صوت يقول لها “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت” ويذكرها بما قال المعبود الذي لا يموت للبشر الرسول الذي مات (إنك ميت وإنهم ميتون). وكان هذا صوت الرجل الذي عرفت الأمة صدق وده للرسول صلى الله عليه وسلم، عرفته من سلوكه هو، ومن قول الرسول ومن كلام رب العالمين. الرجل الذي استخلفه على الصلاة الراحل الكريم، واختارته الأمة لكي يخلفه في إمارة المسلمين ولكن الصداقة شيء وعبادة الأشخاص شيءٌ آخر.
لقد بلَّغ محمد صلى الله عليه وسلم رسالته فاستجاب له مؤمنون حملوا الرسالة بعد موته وهذا شأن القادة أصحاب الدعوات وشأن المؤمنين بالمباديء والدعوات. إن موت القائد لا يؤثر في رسالته بل إن كلماته لترتوي بدمه وتحيا بموته وتزدهر بعد ذهابه.
وغداً يموت جمال عبدالناصر فتتحطم لموته نفسيات، وييأس من جدوى العمل أفراد وتختفي باختفائه أحزاب وجماعات وصحف ومجلات وشارات وشعارات لأنها كانت تعيش عليه لا على مبدأ تشاركه الإيمان به.
سيحتج أقوام قائلين نحن لا نهاجمه أو ننتقده، كما يفعل الحاقدون أمثالكم، لا لأننا نعبده –كما تدعون- ولكن لإيماننا بأفكاره الاشتراكية وبمواقفه الوطنية، فهو الذي حرر مصر من الملكية وطهرها من الرجعية وهو الذي أمَّم القنال ورفع مستوى العامل والفلاح، وهو الذي رفع في العالم رأس الأمة العربية –قبل الهزيمة-
أقول وليت شعري وهل تكون العبادة إلا بمثل هذه المبررات؟ إن العبادة لا تبدأ في فراغ فلا بد في باديء الأمر أن يفعل المعبود شيئاً، أو أن يُخَيل إلى بعض الناس أنه قد فعل شيئاً، ينال رضى العابدين وإعجابهم حتى إذا تمكن الحب من قلوبهم، وأسلموه أمرهم، لم يبالوا بعد ذلك ما يفعل بنفسه وبهم، ورأوا من الكبائر أن يجرؤ أحد على الاعتراض عليه فقد حل هو بشخصه محل الفكرة التي عُبد من أجلها، فأصبح هو الفكرة وهو المبدأ الذي تُقاس به الأفكار والأفراد والمواقف بمدى قربها أو بعدها من نيل رضاه.
إن العابد لا يقول أبداً إنني أعبد شيئاً لشخصه، حتى عُباد الأصنام لم يعدموا مبرراً، فقد قالوا عن آلهتهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)
إذن فليس المهم أن تجد مبرراً للعبادة، ولكن المهم أن يكون المبرر مقبولاً. ولا سبب مهما كان يبرر عبادة شيء من دون الله حتى لو كان الشيء شخصاً مرسلاً من عند الله (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق)
قلت إن العبادة لا تبدأ في فراغ، وإن المعبود لا بد أن يفعل، أو يتوهم العابد أنه قد فعل شيئاً يستحق الرضى والتقدير، ثم يتطور الأمر من رضى وتقدير وإعجاب إلى تسليم مطلق وانقياد أعمى. إن القرآن يحكي عن اليهود والنصارى أنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) فلماذا عبدوا الأحبار والرهبان والمسيح؟ لابد أنهم في باديء الأمر قدروهم وأحبوهم لمعرفتهم بتعاليم الدين ولقربهم من الله رب العالمين، ولكن هذا الحب والتقدير ازداد وازداد حتى فات حده وهزم غايته. لقد عبدوهم في باديء الأمر لقربهم من الله ولأنهم ظنوا أنهم خير من يقودونهم إلى الله، فإذا بهم في النهاية يعبدونهم من دون الله، ولا يقولن أحد إننا لا نعبد فلاناً كما يعبد النصارى عيسى، أو كما يعبد المشركون أصنامهم، فإن المهم هو مبدأ العبادة لا كيفيتها. والعبادة تكون حيث ما كان التسليم المطلق لشيء من الأشياء، وهذا التسليم المطلق ليس حالة نفسية فحسب ولكن له مظاهر بينة مشهودة، ومن مظاهره عدم النقد وعدم الإنكار وعدم الاعتراض، بل واستنكار الاستفسار. فالإنسان إذا كانت تربطه بآخر آصرة الفكر والعقيدة فإنه مهما أحبه وقدره ووثق فيه واطمأن إلى إخلاصه فلابد أن يزن تصرفاته بميزان الفكرة التي تربطهما ولا بد أن يسأله لم فعلت هذا، أو أن يقول له لا تفعل ذاك من الأمور التي يبدو له أنها لا تتمشى مع الفكرة التي التقيا على الإيمان بها.
أيشك أحد في تصديق عمر وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولكن انظروا كيف يجادله يوم الحديبية؟
قال عمر مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله
قال: بلى
قال: أولسنا بالمسلمين؟
قال: بلى
قال: أوليسوا بالمشركين؟
قال: بلى
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
قال: أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني.
فهذا الذي ظنه عمر دنية وأراد أن يثني الرسول عنه ليس من فعل الرسول وأنما هو أمر الله الذي يعبده عمر كما يعبده الرسول صلى الله عليه وسلم. فتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم إذن له ما يبرره من المبدأ الذي آمن به عمر وهذا شأن المستمسكين بالمباديء، وليس كذلك المتعلقون بالأشخاص، إنه يردونهم موارد الهلاك فلا يقوى أحد أن يقول للسيد الرئيس: كيف حدث هذا؟ ولم حدث؟ وينبغي ألا يتكرر، ولابد من أن نزيل الأسباب التي أدت إليه ونحاسب المسؤلين عنه.
لا شيء من هذا فالقاعدة أن الرئيس لا يمكن أن يقع في خطأ كهذا أو يشارك فيه وأن كل من يشير ولو إشارة بعيدة إلى أنه مسؤول عما حدث فهو –شعر أم لم يشعر- خادم للسياسة الاستعمارية واقع في حبائل الامبريالية العالمية، عامل ضد مصلحة الشعوب العربية.
القاعدة أن الرئيس مخلص لا يرتكب خطأ، وإذن فلابد من البحث عن أسباب الكارثة في كل مكان إلا عند الرئيس فإذا قال الرئيس إنني مسؤول عن الخطأ أضيف هذا إلى حسناته. أليس من النبل أن يخطيء غيره فيتبرع هو بحمل الخطأ؟!! فقد عبد الناس المسيح لأنه في وهمهم جاء ليحمل عن البشر خطاياهم.
ولكن ماذا استفدنا نحن؟ ما هي الأخطاء وكيف حدثت ومن المسؤول عنها أولاً؟ نريد أن نعرف هذا لأننا نستفيد منه في معركتنا القادمة. ولكن ما الفائدة في أن يتحمل الرئيس الأخطاء ويستقيل؟
وبعد أن عاد الرئيس إلى الحكم بعد دقائق حاملاً أخطاءه، وبعد أن اعتقل من اعتقل من كبار القادة العسكريين، قال الرئيس –الذي تحمل الخطأ- أنه بريء مما حدث فهو قد أخبر المسؤولين جميعاً بميقات الهجوم الاسرائيلي. فقال المعجبون العابدون: ألم نقل لكم إن الرئيس لا يخطيء؟ وأنه تحمل الأخطاء نبلاً لا ذنباً؟ ويموت مشير الرئيس وصفيه وخليله فيجرؤ الناس على النيل منه، وعلى تجريمه لأنه جرؤ قبل موته على معارضة الرئيس. إذن فلتنبش أخطاؤه كلها منذ أن استلم مسؤوليته على أن لا يمس الرئيس منها شيء، فتغاضيه عما علم منها كان حلماً ووفاءً، وجهله بما جهل كان عذراً مقبولاً.
ويتحدث لسان الرئيس هيكل فيقول كلاماً مقبولاً فيجرؤ بعض الناس على التعبير عن قلقهم مما يقول فيلتمسون من السيد الرئيس أن يقول بلسانه العضوي كلاماً ينفي ما قاله لسانه الصحفي. يطلبون هذا لا شكاً بعد إيمان ولكن لتطمئن القلوب.
ولكن المؤمنين بالرئيس حقاً يرون حتى في هذا النقد اللطيف المتحرج المتردد خروجاً على اللياقة وتشكيكاً في القيادة. إن ما يقوله هيكل هو رأي الرئيس لا شك في هذا، ولكن الأمور ينبغي ألا نأخذها بظواهرها. فإن لكل كلام ظاهراً يتسرع إلى قبوله العوام الجاهلون، وباطناً لا يدركه إلا الغائصون في بواطن الأمور وعلى الذين لم يتمرسوا في فنون التأويل أن يكفوا عن الاعتراض والتفسير و إلا وقعوا في المحاذير.
يا ليت شعري، أقولها أخيراً بملء فمي: ماذا تكون العبادة إن لم تكن هذه؟! وكيف تخرج من محنتها وكيف تستعيد أرضها أمة لم تستعد رشدها؟ ولكن أستغفر الله فلا داعي للأسى واليأس فإذا كان بعض الناس ما زالوا يسيرون بدفع ما قبل الهزيمة، فإن كثيراً من الناس قد انتبهوا وأعلنوا بحالهم ولسانهم أنهم لا يريدون متابعة السير في الطريق الذي أدى إلى الهزيمة. فإلى هؤلاء نقول تجردوا من عبادة البشر مهما كانوا ومهما منوا ومهما قالوا، واستمسكوا بالحق أنى وجدتموه فذلك هو طريق الانتصار.
ونرجو أن يأذن الله بمتابعة الحديث حول استكشاف معالم هذا الطريق.