لا تحسبوه شراً لكم !
165

 ظلت وسائل الإعلام الأمريكي منذ سنين تربط الإسلام في أذهان الأمريكيين بالإرهاب ، وقد نجحت إلى حد كبير في جعل الصورة النمطية للمسلم هي صورة الرجل الإرهابي الذي لا همَّ له إلا قتل الأبرياء من الغربيين وتحطيم حضارتهم . ثم جاءت حوادث يوم الثلاثاء 11/9/2001م لتؤكد هذه الصورة ، وليستغلها أعداء الإسلام في داخل أمريكا وخارجها أسوأ استغلال ، وليردد الجاهلون والسفهاء منهم ما يقوله أئمة الضلال أولئك . وبدأ المسلمون يشعرون بالخوف الشديد حتى إن بعض المساجد ألغت صلاة الجمعة خوفاً على أرواح المسلمين .

ثم بدأ الشعور بالعداء للمسلمين يتحول إلى صورة عملية من سبٍّ وشتمٍ وتهديدٍ وضربٍ بل وقتلٍ وتخريب . لكنني وكثيرين غيري ممن خطبوا الجمعة التي تلت الحوادث حاولنا أن نذكِّر إخواننا الذين شهدوا الصلاة وكانوا أقل من العدد المعهود وأن ننصحهم بالدعاء واللجأ إلى الله تعالى . وكان مما قلت كلاماً فحواه أن الله تعالى قد يجعل من المصائب أبواباً يأتي منها خير كثير ، وذكرتهم بقول الله تعالى لرسوله والمسلمين بعد حادثة الإفك : ] لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [ ( النور : 11 ) ، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : « عَجِبْتُ لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ » [1] .

وقلت لهم كما قلت لغيرهم قبل الخطبة وبعدها : إنني أرى في هذه المصيبة فرصة كبيرة للدعوة إلى الله ، وتصحيح الصورة المشوهة للإسلام في أذهان الأمريكان . وتذكرت أنواع كيد كثيرة فتح الله بها أبواب النصر لدينه . تذكرت وقوف الكفرة على مداخل المسجد الحرام يحذِّرون الناس من الاستماع للرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا الدعاية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحول إلى دعاية له ما كان المسلمون المستضعفون ليقدروا على مثلها . ثم قلت كلاماً فحواه أنني كما نصحت المسلمين نصيحة خاصة فأريد أن أنصح الشعب الأمريكي ولا سيما قادته نصيحة عامة . قلت لهم : إنني أريد لكم أن تعرفوا الحقائق ، وأن تبحثوا بحثاً موضوعياً في ما يأخذه الناس عليكم ؛ فإن أعداداً هائلة من المسلمين ، وإن اختلفت مع الذين قاموا بالتفجيرات في وسائلهم إلا أنهم يشاركونهم ( إن صح أنهم مسلمون ) في مآخذهم عليكم . وقلت : إنكم تفاخرون كثيراً بنظامكم الديمقراطي وبما عندكم من حرية والتزام بالقانون . لكن ينبغي أن تتذكروا أن هذا ليس هو الذي يراه الناس فيكم باعتباركم قوة عالمية . بل إنكم بهذا الاعتبار تتصرفون تصرف الحكام الدكتاتوريين المحليين . فأنتم في الداخل ديمقراطيون ، وعلى الصعيد العالمي دكتاتوريون يرى الناس فيكم كثيراً من خصال الدكتاتوريات المحلية ؛ ففيكم كما فيهم الصلف والغرور ، فأنتم لا تكفُّون عن الفخر بأنكم أقوى دولة، وأن التاريخ البشري لم ير مثلكم . لكن القرآن يذكرنا بأن أمماً قبلكم كانت هي الأخرى أقوى من غيرها في زمانها ، وأنهم قالوا كما تقولون اليوم : ] مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [ ( فصلت : 15 )
فجاءهم الرد الإلهي : ] أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [ ( فصلت : 15 ) .

وفيكم كما في الحكومات الدكتاتورية الظن بأنه بمثل هذه القوة وبالعنف تحل كل المشكلات ، وفيكم كما فيهم الاعتقاد بأن قوتكم تجعلكم فوق القانون ، مع أن الواجب عليكم باعتباركم قوة عالمية أن تكونوا مثالاً يحتذى في الالتزام بالقانون الدولي . وذكَّرتهم بأن العدل ليس كله أرضياً ، بل هنالك عدل سماوي ، وأنه إذا كان بعض الشعوب كأفغانستان لا تستطيع أن تقابل قوتكم المادية بقوة مثلها؛ فإنهم سيرفعون أيديهم إلى السماء مستجيرين بمن هو أشد منكم قوة .

ثم تتالت الأحداث وما تزال تتالى . زادت الاعتداءات على الأفراد من الرجال والنساء والأطفال ، وعلى الجماعات والمنظمات والمراكز والمساجد حتى اضطر الناس لأن يغيروا مظهرهم الإسلامي ، بل اضطرت بعض النساء إلى خلع الحجاب ، وتوقف كثير من طلاب المدارس والجامعات عن الدراسة . ولكن صاحَبَ هذا كله اهتمام بالإسلام لم تشهد له أمريكا مثيلاً في تاريخها . توزعت وسائل الإعلام كبيرها وصغيرها على مساجد أمريكا كلها تقريباً لتستمع إلى ما يقوله الخطباء ، ( وقد علمت أن قناة CNN نشرت بعض ما ذكرت في خطبتي ) .

ثم استمر الحديث عن الإسلام والاتصال بالمسلمين والتحذير من الاعتداء عليهم . لكن الأهم من ذلك كله هو إثارة الرغبة في نفوس الأمريكان لمعرفة المزيد عن الإسلام . فما زال الدعاة يدعون للحديث عن الإسلام في الكنائس والمدارس والجامعات ، وما زالت المراكز توزع ما عندها من مواد دعوية حتى نفد ما عند بعضها فهرعت تطلب المزيد . حكى لي بعض الأصدقاء أن بعض المستمعين في إحدى الكنائس قالوا له : إننا لا نعرف شيئاً عن دينكم ، ونقترح عليكم أن تقفوا في الشوارع توزعون مواد تعرِّف به . وحكى الكثيرون من المسلمين أنه لأول مرة في تاريخهم يتصل بهم جيرانهم ليعبِّروا لهم عن أسفهم لما حصل للمسلمين ، وعن إنكارهم الشديد له .

إن المعروف أن الإسلام هو أكثر الأديان انتشاراً بين الناس في هذه البلاد ؛ فما يمر يوم إلا ويدخل فيه عدد منهم ، يقدِّره بعضهم بأكثر من خمسين شخصاً ، بل ذكر لنا أحد إخواننا الأمريكان ممن حباهم الله تعالى بنعمة اتخاذهم وسيلة لهداية الناس إلى دينه ، أنه قد أسلم على يديه في هذه الأيام العصيبة أكثر من عشرين شخصاً . لو كان للمسلمين قيادة واحدة ، ولو كان أمرهم شورى بينهم ، لما قدم أحد منهم على عمل يعرقل سير هذا الخير ؛ إذ المعروف أن الدعوة مقدمة على القتال ؛ لأن القتال إنما يشرع حين يكون وسيلة لازمة لها . أما حين تتيسر بدونه ، فإن عاقلاً عالماً بدينه لا يلجأ إليه ، فكيف إذا كان معرقلاً لها ؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه وهو يعطيه راية الجهاد : « انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ » [2] . لكننا نرجع فنقول لإخواننا الدعاة بأمريكا :  لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ  ( النور : 11 ) ، نقولها تفاؤلاً ورجاءً لا تحقيقاً ؛ فالعلم بالعواقب عند علام الغيوب .

وهذا يقودني إلى موضوع تحدثت عنه في مناسبات كثيرة خاصة وعامة ، وكنت أنوي جعله موضوع مقالي لمجلة البيان هذا الشهر . وها قد شاء الله تعالى أن يجعل هذه الحوادث أحسن مناسبة لذلك الحديث . كنت أريد أن أوجه للمحسنين من المسلمين رجاءً ملحاً أن يبذلوا أموالهم بسخاء لتوفير الآلاف المؤلفة ، إن لم تكن الملايين من ترجمة كتاب الله الكريم إلى اللغة الإنجليزية . والسبب في ذلك أننا وجدنا بالتجربة ، ووجد بعض إخواننا بالدراسة العلمية أن أكثر ما يُدخِل الناس في دين الله هو قراءتهم لترجمة هذا الكتاب العزيز . ولو رحت أحدثكم عمَّا سمعت أنا وحدي عن مشاعر الرضى والطمأنينة واليقين لبعض من هداهم الله تعالى بالاطلاع على ترجمة تنزيل رب العالمين لطال الحديث . لكنني سأكتفي ببعض ذلك عسى أن تكون فيه لنا ذكرى ، وزيادة إيمان ويقين .
فهذا شاب هو الآن في صحبتنا يحدثنا أنه قرأ كتاباً لمؤلف غير مسلم عن الأديان في العالم ، وكان مما كتبه عن الإسلام ترجمة لسورة الفاتحة . يقول الشاب إنني كثيراً ما كنت أتأثر تأثراً فكرياً ببعض ما أقرأ ، لكنني حين قرأت ترجمة هذه السورة شعرت بالتأثير في قلبي . ذهب الشاب يبحث عن المسلمين ، فأسلم ثم انتقل من بلده إلى واشنطن ليلتحق بمعهد العلوم العربية والإسلامية ليدرس اللغة العربية ، وليتعلم دينه . ومن قبله فتاة قالت : إنها لأبوين لا اهتمام لهما بالدين ، لكنها عثرت في بيتها على كتاب ديني قديم أثار اهتمامها فبدأت تبحث عن الأديان ، فكان مما قرأته شيئاً عن الإسلام . قالت وهي تسكن في مدينة نائية أشبه بالقرية إنهاصحبت بعض زميلاتها في الذهاب إلى سوق خارج القرية ، لم تصحبهن إلا لتبحث عن ترجمة للقرآن الكريم . عثرت على طلبتها ، ثم بدأت تقرأ . تقول الفتاة إنها لم تتجاوز الآية الثانية من سورة البقرة ] ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [ ( البقرة : 2 ) حتى وضعت المصحف المترجم ، وشهدت بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . ثم ذهبت تسأل عن المسلمين . ثم جاءت لواشنطن لإكمال دراستها بجامعة جورج واشنطن وهي محجبة حجاباً كاملاً . ومن قبلها شاب لأبوين كاثوليكيين كان يدرس الثانوية بمدرسة كاثوليكية ، وكان مع ذلك يشهد دروساً دينية خاصة . لكن عقله لم يقبل أبداً القول بأن لله ولداً ؛ لذلك قرر أن يبحث عن دين آخر . فكَّر في اليهودية لكنه لم يقتنع بها . ثم دخل الجامعة ، وكان مما درسه مقرر في التاريخ شمل الشرق الأوسط ، وكان من ضمن ما ذكر لهم المحاضر من المراجع القرآن الكريم . يقول إنه لم يكن قبل ذلك يظن أن هنالك ديناً يزعم أنه سماوي إلا اليهودية والنصرانية ! ولم يكن يعرف شيئاً عن الإسلام ألبتة ؛ لكنه حينما بدأ يقرأ في الترجمة اهتدى . إن هذا الكتاب هو حقاً كلام الله تعالى ، يميل كل قلب مهتدٍ إلى ما يناسب حاله منه . فما علينا نحن إلا أن نوفره لهم ليتناولوا منه ما يشتهون فيهتدون . لقد وجدنا بالتجربة مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة » [3] ، فما من أمة إلا وفيها من لا يزال قلبه ينبض بهذه الفطرة ؛ ولولا ذلك لما تحركت قلوبهم عند استقبالها للحق . إن نور الفطرة الداخلي هو الذي يستجيب لنور الوحي الخارجي ] نُّورٌ عَلَى نُورٍ [ ( النور : 35 ) . فالذي أقترحه :

* طباعة الترجمة مجردة عن الأصل القرآني ؛ وذلك لسببين أولهما : أن المدعوين لا يقرؤون العربية . ثم إننا لا ندري ماذا سيفعلون به إذا ما وزعناه على نطاق واسع ؛ فقد يرميه بعضهم في أماكن غير مناسبة ، وقد يقرؤه بعضهم في دورة المياه كما هي عادتهم .
* أن تكون الغالبية العظمى منها طبعات شعبية ذات غلاف ورقي ؛ لكي تقل تكلفتها ويسهل حملها وتوزيعها .
* أن توزع بكميات كبيرة على كل المساجد والمراكز بالولايات المتحدة ، بل وعلى أكبر عدد من الأفراد المعروفين باهتمامهم بالدعوة .
كل هذا عمل يمكن أن يقوم به أفراد من المحسنين من غير تنسيق بينهم . لكن الوضع الأمثل أن تكون لهذا الغرض مؤسسة حبذا لو كانت بالولايات المتحدة نفسها تتولى هي طبع هذه المصاحف بأحجام وجَوْدات مختلفة ، كما تتولى هي توزيعها على سائر المؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية . وحبذا لو استطاعت المؤسسة أن توفر عدداً من المؤهلين للإجابة عن أسئلة من يطلعون على الترجمة ويرغبون في مزيد تفسير وتوضيح .
لكن هذه ليست دعوة لأن تحل هذه المؤسسة محل مجمع الملك فهد لطباعة القرآن ، وإنما هي إضافة وتعضيد لها حتى لا يفوت عامة الناس فضل المشاركة في هذا العمل العظيم الذي تقوم به الحكومة السعودية جزاها الله كل خير . إن المجمع مهتم أساساً بطباعة المصحف الشريف نفسه ، وهو عمل عظيم قد سدَّ وما يزال يسدُّ حاجة ماسة في البلاد الإسلامية ولا سيما الفقيرة منها . ثم هو مهتم
بترجمة الكتاب العزيز إلى كل اللغات . أما الذي ندعو إليه فمؤسسة مختصة بالترجمة الإنجليزية .
أيها الإخوة المحسنون ! إن هذا والله لعمل مبارك ، وإن الثواب عليه والله لعظيم . كيف لا وقد تكون كل نسخة من ترجمة تنفق عليها سبباً في هداية إنسان إلى الإسلام . ووالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ، كما أخبرنا الصادق المصدوق . وإذا كان خيراً لك من حمر النعم فهو خير لك من كل ما تملك من مال إلا مالاً تنفقه في سبيل الله . فالبدار البدار ما دامت أبواب الدعوة إلى الإسلام قد فتحت الآن على مصاريعها . والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد .
________________________
(1) مسند أحمد ، 23412 .
(2) أخرجه البخاري ، رقم 3701 ، مسلم ، رقم 2406 .
(3) أخرجه البخاري ، رقم 1385 ، ومسلم ، رقم 2658 .

 مجلة البيان العدد 168 , شعبان 1422 هـ