رد شبهات المكذبين بعذاب القبر
2023-09-01
1,820

كون بعض الناس يعذبون في قبورهم أمر جاءت به أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر يدل دلالة قاطعة على نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فالذي ينكر عذاب القبر مكذب له صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون جاهلا بهذا التواتر، أو جاهلا بأمر عقلي وهو أن التواتر يدل دلالة قاطعة على نسبة القول أو الفعل إلى من نسب إليه. ومن كان مكذبا للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر يعلم أنه قاله فلا يكون مؤمناً به، ولا بربه الذي أرسله، وإن كرر النطق بالشهادتين ألف مرة أو زاد.

وكل حجة يتشبث بها من ينكر أمراً جاء به كتاب الله، أو قاله رسول الله لا بد أن تكون باطلة عقلاً؛ كما هي باطلة شرعاً. بل إنها لتدل على ضيق أفق صاحبها؛ لأنها كثيرا ما تعتمد على الخلط بين الممكن والمألوف.

أعني أن أحدهم ينكر إمكان حدوث شيء ما لمجرد أنه أمر غير مألوف؛ فهو يخلط بين المستحيل وغير المعهود.

هكذا فعل العرب الجاهليون في إنكارهم للبعث. كانوا يرون أنه من المستحيل أن تبعث أجسادهم بعد أن يصيروا عظاما نخرة. فكان الرد القرآني العقلي عليهم:

(وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) (الإسراء).

أي إذا كنتم مؤمنين بأن الله تعالى هو الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا – وقد كانوا مؤمنين بذلك – فكيف يستحيل عليه أن يعيد خلقكم مرة ثانية؟! أليست الإعادة أهون من البداية؟!
كذلك الأمر بالنسبة لعذاب القبر؛ أنكره بعض الزنادقة في الماضي، ويقلدهم في إنكارهم بعض الزنادقة المحدثين. لكن الزنادقة الذين أنكروا عذاب القبر قديما كانوا أذكي من زنادقتنا المحدثين؛ ولذلك أثاروا من الشبهات أعظم مما يثير هؤلاء المقلدون لهم. ولم ير أهل السنة بأساً في رواية شبهاتهم؛ لأنهم كانوا موقنين بأنها حجج باطلة؛ يسهل محقها. نذكر في ما يلى مثلاً لهذه الردود السنية:

رد ابن القيم على الزنادقة:
ذكر الإمام ابن القيم في كتابه الروح (تحقيق سعيد محمود عقيل، نشر دار النخيل) كثيراً من هذه الشبهات، وفصل فيها، وكان مما ذكر عنهم قولهم: (ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يُسأل، ولا يجيب، ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع، ونهشته الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع، وحواصل الطيور، وبطون الحيتان، ومدراج الرياح كيف تُسأل أجزاؤه مع تفرقها؟!).

ثم بدأ رحمه الله في الرد عليهم رداً استغرق أكثر من عشر صفحات (77-91)؛ لكننا نلخصه في هذه الكلمات:

– أن الرسل لم يخبروا بما تقطع العقول باستحالته.
– أن يفهم عن الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير؛ فلا يُحَمَّل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان. إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد.
– أن الله تعالى جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار. وجعل لكل دار أحكاما تختص بها. جعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعا لها. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها. تجري أحكام البرزخ على الأرواح؛ فتسري إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا. فأحِطْ بهذا الموضع علماً، واعرفه كما ينبغي يزل عنك كل إشكال يرد عليك.
فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم صار الحكم، والنعيم، والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً.
– أن الله تعالى جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا؛ فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر، وتجلس قريبا منه، ويشاهدهم عيانا، ويتحدثون عنده؛ قال تعالى: ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) (الواقعة).
– أن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا؛ وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها؛ وهي أشد من نار الدنيا؛ فلا يحس بها أهل الدنيا. وقدرة الرب تعالى أوسع، وأعجب من ذلك. وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدنيا ما هو أعجب من ذلك بكثير؛ ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً إلا من وفقه الله وعصمه. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمثل له رجلا؛ فيكلمه بكلام يسمعه؛ ومن إلى جانب النبي لا يراه، ولا يسمعه. وهؤلاء الجن يتحدثون، ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم.
– ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو (يعني البرزخ) ما بين الدنيا والآخرة، وسمي عذاب القبر ونعيمه باعتبار غالب الخلق؛ فالمصلوب، والمحروق، والغرق، وأكيل السباع والطيور لهم من عذاب القبر ونعيمه قسطهم الذي تقتضيه أعمالهم.

وزيادة من عندنا:
– يقال لمن ينكر عذاب القبر بحجة أن بعض الناس يموتون غرقاً أو حرقاً: أ أنت من المؤمنين بالبعث؟ إن كنت مؤمنا به فأنت تعتقد أن الله تعالى سيبعث الذين ماتوا حرقا؛ حتى ولو تفتت أجسادهم وذرت في الهواء. فما الذي يمنعه سبحانه إذًا من أن يجمعها، ويجعلها جسداً كما كانت فور تفتتها؟ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)
– إن ما قلته عن الذين يحترقون أو يغرقون يُقال مثله عن الذين يُقبرون؛ ذلك أن المقبور لا يلبث – إن لم يكن نبيا – أن يتفتت، ويصير عظاماً نخرة؛ كما قال المشركون، بل حتى عظامه ستتفتت وتتحول إلى المواد الأولية التي خلق منها الجسد!؛ فكيف إذًا يُسأل أو يُعذب؟!.
– إننا نعلم حتى في هذه الحياة الدنيا أن الإنسان إنما هو إنسان بروحه؛ لا بجسده؛ وذلك أننا نرى الجسم يتغير؛ فيزداد وزن الإنسان بضع أرطال أو ينقص، وتبتر بعض أجزاء جسمه، ويصح بعضها أو يمرض، ويظل الإنسان مع ذلك هو الشخص الذي نعرفه..
– بل نزيد على ذلك أمرا ربما لم يكن معروفا للأقدمين، بل ولكثير من المحدثين؛ وهو أن جسم الإنسان في تغير مستمر؛ حتى إنه لا يبقى من خلاياه شيء كان قبل بضع سنوات ما عدا خلايا الدماغ التي يُقال إنها إذا فُقدت لا تعوض، وإن كانت بعض الخلايا الباقية تقوم بمهمتها.
والجسم إنما هو وسيلة لعذاب الروح؛ قال تعالى عن المعذبين في النار: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 56).
– ثم نضيف إلى ما ذكره الإمام بعض ما نعرف الآن من عجائب خلق الله في هذه الدنيا؛ مما يتصل بهذا الأمر؛ مما لم يكن بعضه معروفا في زمنه رحمه الله. فنحن نعرف الآن أنه كما أن هنالك حدا أدني لما يسمعه الإنسان من أصوات؛ فهنالك أيضا حد أعلى!! أعني أنه كما أن هنالك أصواتاً لا تسمعها الأذن البشرية لخفوتها وقد تسمعها بعض الحيوانات؛ فهنالك أيضاً أصوات لا تسمعها هذه الأذن لشدة علوها؛ وقد يسمعها حيوان مثل الكلب! وهذا يعني أنه قد توجد الآن في المكان الذي أنت فيه أصوات أعلى بكثير من أصوات الطائرات التي تصك الآذان لكننا لا نسمعها، بينما تسمعها بعض الحيوانات.