مناقشة هادئة مع المفجرين
بما أن أعمال الناس حسنة كانت أم سيئة إنما تنتج عن تصوراتهم، فإن أنجع وسيلة لعلاج ميولهم إلى الأعمال الشريرة هو إقناعهم بخطأ التصورات التي أدت إليها. لكن هذا الأمر لا يتيسر دائما لأسباب كثيرة:
– منها أن العمل الذي نراه شرا ويراه فاعله خيرا قد يكون من النوع الذي يحتاج إلى سرية شديدة كأعمال التفجير.
– ومنها أن المستعد للإقدام على مثل هذا العمل يكون قد سجن نفسه في جماعة ضيقة صارت تمثل بالنسبة له العالم كله، فما رأته خيرا فهو خير وما رأته شرا فهو شر رغم انف المعترضين من خارجها.
– ومنها أن الذي ينضم إلى مثل هذه الجماعة ويأتمر بأوامرها أمرا مطلقا يكون في العادة من شبان فيهم أخلاص وإقدام لكن يغلب عليهم الجهل وقلة التجربة.
فما العمل إذن؟
عدم معرفة أعيانهم لا تمنع من مخاطبتهم مخاطبة عامة تصلح لكل إنسان عاقل ولا سيما إذا كان مسلماً وهذا ما يقوم به الآن كثير من السياسيين والكتاب والفقهاء.
لكن هذه المخاطبة العامة لا تغني عن مخاطبتهم مخاطبة خاصة تتناول الحجج التي يعتمدون عليها في تسويغهم لعملهم.
أين نجد هذه الحجج؟
نجدها أحياناً عند بعض من يرون رأيهم ويدافعون عنهم ممن قد يكونون أو لا يكونون معهم. وقد قُدر لي أن أعرف بعض هذه الحجج بسبب الأسئلة التي تعقب المحاضرات العامة، أقول بعضها ولا أقول كلها ولا أهمها.
سألني أحد الشباب الصغار عقب محاضرة ألقيتها بمسجد بالخرطوم عن رأيي في حوادث لندن، فلم يعجبه جوابي فرد علي قائلا إن هؤلاء الغربيين فعلوا كذا وكذا وقتلوا الآلاف من الأبرياء في أفغانستان والعراق.
قلت نعم وهم في هذا مجرمون وظالمون، فنحن لا ندافع عنهم ولا نبحث عن مسوغات لجرمهم.
قال فماذا نفعل إذن؟ هل نظل ساكتين وهم يفعلون ما يفعلون.
قلت لا.
قال لكن ليس لنا وسيلة غير هذه التفجيرات نرد بها عليهم.
أقول أولاً: إن هذا ليس بصحيح. فالناس في أفغانستان والعراق ما زالوا يقاتلون المحتلين. وهذا من حقهم.
وثانيا: إنك لا تنصر دين الله بعمل يبغضه الله. والله تعالى نهانا عن قتل الأبرياء، إن إقدام عدوك على جرائم يحرمها عليك دينك لا يحل لك هذه الجرائم. هل ترى أن نفعل بأسراهم ما فعلوا هم بأسرانا في أبي غريب؟ هل ترى أن ترتكب الفواحش مع رجالهم إذا ارتكبوها هم مع الأسرى من رجالنا؟
يستدل بعضهم بمشروعية هذه الأعمال بما يراه من نتائج حسنة أدت إليها. لكن اعتبار النتائج الحسنة دون النظر إلى السيئة، أو السيئة دون النظر إلى الحسنة ليس من شأن العقلاء، لأنك تستطيع بمثل هذا المنطق أن تسوغ كثيراً من أنواع الظلم أو تعترض على كثير من وسائل الخير.
إن المنهج الصحيح هو أن توازن بين أثار الشيء الحسنة والسيئة فما غلب حسنه على سوئه كان في جملته حسنا، وما غلب سوؤه على حسنه كان ممنوعاً. كما قال الله تعالى في تعليله لتحريم الخمر والميسر ” وإثمهما أكبر من نفعهما” وكما قال في نهيه عن سب آلهة المشركين ” ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم”. لو أن حكومة ما ضاقت ذرعا بالكذابين فقررت أن تقطع لسان كل من ثبت عليه كذب لأدى ذلك إلى تقليل عدد الكذابين ما في ذلك شك. لكن الأضرار الناتجة عنه ستكون أكبر.
يتصل بهذه المسألة مسألة أخرى تتعلق بسمعة الإسلام والمسلمين. إن أعظم مهمة يقوم بها إنسان هي الدعوة إلى الله. وهذه الدعوة تقتضي أن تبلغ دين الله إلى الناس كما هو فلا تحرفه بقول أو عمل. وإلا كنا من الذين يصدون عن سبيل الله بدلا من أن نكون من الداعين إليه. إن الإساءة إلى سمعة المسلمين هي من نوع الصد عن سبيل الله، ولذلك فإن الله تعالى علل منعه للمسلمين من مهاجمة عدوهم بمكة بقوله سبحانه:
هذا الذي فعله كفار مكة كان عملاً عدوانياً حتى بمقاييس التقاليد العربية التي لم تكن تبيح صد إنسان يريد زيارة بيت الله الحرام. فكان من حق المؤمنين إذن أن يهاجموهم دفاعاً عن حقهم هذا. لكن الله تعالى منعهم وعلل منعه لهم بأن العرب ستعيّرهم بقولهم إنهم قتلوا إخوانهم مع أنهم لو قتلوهم في من قتلوا لكانوا معذورين لعدم علمهم بوجودهم.
فكيف يُقدم مسلم على قتل أناس يعلم أنه قد يكون فيهم بعض إخوانه المسلمين، ويعلم أن أغلبهم بل ربما كانوا جميعاً من الأبرياء الذين لا مشاركة لهم في قتل المسلمين بقول أو فعل، بل ربما كان بعضهم من الذين اعترضوا على ذلك؟
إن أكثر الناس فرحا بهذه الأعمال هم أعداء الإسلام الحقيقيون الذين يغيظهم سرعة انتشاره بين ذويهم. إنهم يعلمون أن مثل هذا العمل هو أحسن وسيلة لصد الناس عن الإسلام. من ذا الذي يقدم على اعتناق دين يرى أن أهله لا يبالون بقتل الأبرياء حتى لو كانوا من إخوانهم في الدين؟