العلمانية والجاهلية وجهان لعملة واحدة
204

بما أن الحضارة أو الثقافة العلمانية حضارة تحل الهوى محل الإله الحق، فإن لها في كل أشكالها –القديمة أو الحديثة، اليونانية والأوربية أو العربية- سمات مشتركة، نابعة من ذلك الأصل الكفري المشترك، لأن قيم الناس وثقافاتهم هي ثمرة معتقداتهم وأحوال قلوبهم، فإذا تشابهت المعتقدات وتشابهت لشابهها القيم، تشابهت الأقوال والأعمال والتحليلات والتفسيرات:

“كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم” [البقرة 118]

“كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، أتواصوا به؟ بل هم قوم طاغون” [الذاريات 52-53]

فالثقافات الجاهلية كلها ثقافات تطلق العنان للشهوات الجنسية فتبيح الزنا بكل أشكاله:

عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته ‏أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاحالناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كانالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي‏ ‏منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منهفإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذاالنكاح نكاح ‏ ‏الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأةكلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلميستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركموقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنعبه الرجل ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءهاوهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملتإحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم ‏ ‏القافة ‏ ‏ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ‏‏فالتاط ‏ ‏به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث ‏ ‏محمد ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. [البخاري، النكاح:37]‏

هذه الإباحية الجنسية العربية أقل شراً من إباحيات أمم أخرى، لأنها كما ترى تحرص على أن يكون للمولود نسب ينتمي إليه وإن كان نسباً غير حقيقي.

 وكما تبيح الحضارة الجاهلية الزنا فإنها تبيح كل مقدماته ومسبباته، فالنساء في المجتمع العربي الجاهلي، كأخواتهن في المجتمع الجاهلي الغربي، كن لا يتحرجن من إظهار محاسنهن الأنثوية لكل الرجال، فكن يكشفن شعورهن ونحورهن بل صدورهن، ولم يكن يدنين عليهن جلابيبهن، بل كن أحياناً لا يتحرجن حتى من التعري الكامل، وكن يختلطن بالرجال ويخلون بغير المحارم، وكن يتعطرن ويخرجن ويخضعن بالقول في خطابهن.

والحضارات الجاهلية حضارات لا تعرف التوسط ولا سيما في معاملة النساء.

فهي تذهب من طرف معاملتها معاملة الحيوان والعبيد (قال عمر رضي الله عنه كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً – البخاري، اللباس، 30) إلى طرف مساواتها بالرجال في كل شئ بل تقديمها عليهم: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم) [النمل: 23]

“قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون. قالوا نحن ألو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين” [النمل 32-33]

وقد تغلو الحضارة الجاهلية في اتباع الشهوات الجنسية فتبيح الشذوذ، كما فعل قوم لوط وكما فعلت الحضارة اليونانية، وكما تفعل اليوم الحضارة الأوربية.

والحضارات الجاهلية كلها تبيح شرب الخمر، ولعب الميسر، وأكل الربا. وهي حضارات لا ينفك أهلها عن الفخر بالأنساب أو الألوان أو القوى المادية أو غير ذلك مما لا تعلق له القيم الفاضلة، ويتخذون مثل هذه الميزات ذريعة إلى الاعتداء على الضعفاء. هكذا كان العرب في جاهليتهم يفعلون، وهكذا فعلت الحضارة الغربية مع الأمم الضعيفة فاستعمرت بعضاً، واحتلت بعضاً، واسترقت بعضاً ثم عاملتهم أسوأ مما تعامل به الحيوان.

لكن الحضارات الجاهلية قد تفلح رغم كل هذه المثالب في بناء مدنيات باهرة، وتتفوق في العلوم الدنيوية وما يبني عليها من تقنية فتأتي بمنجزات كبيرة في مجال الزراعة والصناعة وسائر أنواع التفوق المدني العمراني. ولكن لما كان هذا الجانب المدني المادي قائماً على جرف ثقافي هار فإنه لا يلبث أن يتداعى.

“يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون” [الروم: 7]

“أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها. وجائتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.” [الروم: 9]

ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب. إن ربك لبالمرصاد.” [الفجر:6-14]

مجلة منار السبيل، السنة الثانية-العدد 4- أكتوبر 1993