ارتكاب أخف الضررين
لقد فطر الله سبحانه وتعالى الناس على مبادئ عقلية يبدهها كل واحد منهم بغض النظر عن زمانه ومكانه ومعتقده وعلمه وثقافته، بل إن بعضها ليبدهه حتى الأطفال منهم. ثم أنزل الله سبحانه وتعالى دينه الهادي للناس موافقاً لتلك المبادئ العقلية التي فطرهم عليها. ومن هنا كان قول العلماء بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، وقولهم بأن الدين لا يأتي بمحالات العقول، وإن أتى بمحاراتها.
وإذن فوضع الدين في مقابل العقل، أو القول بأن إنساناً ضل لأنه اتبع عقله، كل هذا شئ مخالف لما هو مقرر في هذا الدين. ولها لم يكن أسلافنا يسمون المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة بالعقلانيين كما نسمي نحن بعضهم اليوم. بل كانوا يسمونهم بأهل الأهواء، لأنهم لم يجدوا في كتاب الله ذماً لإنسان لاتباعه عقله، وإنما كان الذم للذين لا يعقلون. أما أصحاب العقول فهم أهل الدين الصحيح، وأهل الدين هم أصحاب العقول. أنظر كيف جمع الله تعالى بين هذين الأمرين في قوله تعالى:
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:18]
وانظر في مقابل ذلك كيف جعل الله تعالى عقاب عدم العقل كعقاب عدم الإيمان.
فقال تعالى في سورة يونس :(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:100]
وقال في سورة الأنعام: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام:125]
لكن القرآن الكريم لا يقرر هذه القواعد العقلية كما يقررها المناطقة والأصوليون (أعني علماء أصول الفقه)، وإنما يفترضها، ويطبقها، ويذم من خالفها، لعلم الله تعالى بأنه فطر العقول عليها، فالناس ليسوا في حاجة إلى من يعلمهم إياها. تأمل قول الله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ؟) [البقرة:44]
تجد أن الله تعالى أنكر على هؤلاء أمراً لا يفعله عاقل، وهو أن يرشد غيره إلى ما يراه خيراً ثم لا يستفيد هو من هذا الخير. وتأمل قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [آل عمران:65-66]
فإذا رأيت العلماء يقررون قاعدة من هذه القواعد بألفاظهم فلا تقل كما يقول بعض الجهلاء مستنكرين: من أين أتى الفقهاء بهذه القاعدة التي ليست في كتاب الله؟. إنها ليست في كتاب الله بهذا النص الذي ذكروه، لكنها في كتاب الله لأنها متضمنة في كثير من الأحكام التي جاءت فيه.
من هذه القواعد قاعدة ارتكاب أخف الضررين، والقواعد المكملة لها والتي تدور كلها حول فعل ما فيه زيادة للخير أو تقليل للشر، كقاعدة تحقيق أكبر المصلحتين، وقاعدة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وذلك أن الهدف العام لهذا الدين في هذه الحياة إنما هو زيادة الخير وتثبيته، وتقليل الشر وقمعه.
إذا خُير الإنسان بين خير واضح وشر واضح فعليه أن يختار الخير. هذا أمرٌ لا شك فيه. لكن الحياة ليست دائماً اختياراً بين خير خالص وشر خالص، بل إن الإنسان كثيراً ما يجد نفسه مخيراً بين خير وخير، أو شر وشر. أو بين شئ فيه بعض الخير وبعض الشر فماذا يفعل؟ بل إن الإنسان قد يجد نفسه في ظرف غير عادي تكون عاقبة فعل ما هو –في العادة- خير، شراً. فماذا يفعل؟
البديهة العقلية تقول إن عليه أن يختار أقل الأمرين شراً، لأنه إذا كان غرضه الخير، فإن أقل الأمرين شراً هو أقربهما إلى الخير. قلت مرة كلاماً مثل هذا لأخ زعيم لجماعة ظننت أنه مقْدِم على أمر فيه ضرر به وبالمسلمين، فكان جوابه “أنا لا أتعامل مع الشر إطلاقاً”. ولكن هذا الأخ نسي أنه إذا أصر على فعل ما هو في العادة خيراً رغم أن الظرف الذي هو فيه يجعل عاقبته شراً، يكون قد تعامل مع الشر من حيث لا يشعر، بل يكون قد فعل ما هو أبعد عن الخير وأقرب إلى الشر.
من أين جاء الأصوليون بهذه القاعدة؟
لقد وجدوها مطبقة ومضمنة في عشرات من آيات القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة. من ذلك قوله تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة: 219]
فتحريمهما إذن لم يكن لخلوهما من أي نفع وإنما كان من أجل أن ما فيهما من شر أكبر مما فيهما من خير. فإذا طبق الإنسان هذه القاعدة على الدخان مثلاً، فلا يملك إلا أن يقول إنه حرام، لأنه قد ثبت أن فيه ضرراً كبيراً ولم يثبت له أدنى نفع.
وقال تعالى للمسلمين وهم بمكة: (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [النساء: 77]
لماذا؟ يقول ابن كثير:
وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدة عدوهم… (التفسير، النساء، الآية 77)
أمر الله تعالى هؤلاء المؤمنين الصادقين بعدم مقاتلة الكفار مع أنهم كانوا معتدين عليهم وظالمين لهم, ومع أن قتال هؤلاء في الأحوال الطبيعية هو الفرض وهو الخير، لكن لما كانوا في حال لا يأتي معها القتال إلا بضرر أكبر أُمروا بكف أيديهم.
وقال تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 108]
قال ابن كثير معلقاً على هذه الآية في تفسيره:
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين.
وقال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل: 106]
أباح الله تعالى في هذه الآية الكريمة للمؤمن أن يتفوه بكلمة الكفر إذا هُدد بالقتل أو بغيره من أمور يصعب عليه تحملها، فهو هنا يختار أخف الضررين بالنسبة له.
ويمكن أن نلمح هذه القاعدة في صلاة الخوف، وقصر الصلاة في السفر، والفطر للمريض والمسافر، وفرضه على الحائض، لأن الله تعالى يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، فإذا كان الإنسان في ظرف يجعل ما فرض الله تعالى عليه في الظروف العادية ذا عاقبة فيها ضرر عليه، تغير الحكم.
ما الدليل على أن هذه القاعدة الشرعية هي أيضاً قاعدة عقلية؟
الدليل هو أن كل الناس يلجؤون إليها في حياتهم اليومية حين يحتاجون إليها، وإن لم يسموها باسم معين، بل وإن لم يكونوا على وعي باستعمالهم لها. إن كل إنسان عاقل إذا خيره لص أو إنسان ظالم بأن يعطيه ماله، وإلا قتله، أو قتل أحد أولاده، أو فعل بهم شئ آخر فظيع، فإنه لا يتردد في التضحية بماله إبقاءً على نفسه أو نفوس أولاده، إذا لم يجد مخرجاً آخر. وهو بهذ التصرف يكون عاقلاً لاختياره أخف الضررين. بل إن الأطفال ليتصرفون وفق هذه القاعدة، ولولا ذلك لما أمكن تأديبهم. إنك حين تقول لطفلك لئن فعلت كذا وكذا لأحرمنك من كذا وكذا، فإنه ينتهي عن فعل الأمر الأول –مع حبه له- حفاظاً على عدم فقدان الأمر الثاني، أو تفادياً لعقاب تهدده به. وهو في كل هذا يتصرف وفق هذه القاعدة العقلية. والدليل أيضاً أنها قاعدة معروفة-حتى بألفاظها- لأناس من ثقافات وأديان مختلفة. فالمتكلمون بالإنجليزية مثلاً يعبرون عنها بقولهم The lesser of two evils
لكن المشكلة أن كثيراً من المتدينين الذين يتصرفون كغيرهم من الناس وفق هذه القاعدة في حياتهم الشخصية، يخالفونها في بعض تصرفاتهم الدينية ظانين أنه من علامات شدة الاستمساك بالدين أن لا يلقي الإنسان بالاً لعواقب أعماله. فإذا قلت للواحد منهم لا تفعل هذا الأمر في هذا الظرف، أجابك محتقراً إياك بأنه ينفذ أمر الله تعالى وليكن ما يكون. لكنه في الحقيقة لا ينفذ أمر الله تعالى إذ يتصرف تصرفاً تكون عاقبته شراً على المسلمين. وذلك أن الله تعالى الذي أمره بجهاد الكفار مثلاً، أمره أيضاً أن يُقدر العواقب ويحسب الحسابات، ولا يُقْدم على محاربة الكفار إقداماً تكون عاقبته مزيداً من التمكين لهم، أو تكون عاقبته زيادة إضعاف للمسلمين. إن الله تعالى لم يجعل كل أمر أو نهي من أوامره ونواهيه شيئاً مطلقاً ومستقلاً عن بقية الأوامر والنواهي والقواعد العامة. فالذي يطبق أمراً أو نهياً من هذه الأوامر والنواهي من غير نظر إلى العواقب يكون في الحقيقة قد أخذ بعض الدين وترك بعضه.
لكن مما ينبغي التنبيه عليه أن هذه ليست دعوة إلى التساهل وترك الأمر الشرعي لأدنى أمر يحسبه الإنسان ضرراً عليه. إن الأوامر والنواهي الشرعية امتحان للإنسان في هذه الحياة ينال عليه أجره في الدار الآخرة. ولا بد أن يكون في الامتحان بعض المشقة خصوصاً في بعض الظروف، فإذا فهم الإنسان من هذه القاعدة أنه يترك الأمر مما أمر الله به أو نهى عنه لأدنى عارض يعرض له، لا يكون عد تصرف تصرفاً عقلياً، بل يكون متبعاً لهواه. فكما أن الإنسان لا يعطي ماله لكل من يهدده أدنى تهديد، فكذلك لا يترك الامتثال لأمر الله تعالى لأدنى مشقة، أو أدنى حرج.
إن قاعدة ارتكاب أخف الضررين قاعدة مهمة ومفيدة غاية الفائدة في كل مجالات العمل، ولا سيما العمل السياسي والاجتماعي، لكن المصالح والمفاسد يجب أن توزن بالموازين الشرعية العلمية وتقدر بها.
1418هـ الموافق 1998 م