الانفراط العظيم 3\3
174

الانفراط العظيم الأسباب والآثار

هذا أوان أن نرجع إلى الانفراط العظيم ونتساءل : ما الذي سيحدث بعد هذا ؟ هل كُتب علينا أن ننحدر إلى مستويات أدنى فأدنى من الفوضى الاجتماعية والخلقية ؟ أم أن هناك سبباً معقولاً يدعونا لأن نتوقع بأن هذا الانفراط حالة طارئة ، وأن الولايات المتحدة والدول الأخرى التي عانت منه ستنجح في أن تكون لها قيم من جديد ؟ وإذا حدثت هذه الإعادة للقيم ، ففي أي صورة ستكون ؟ هل ستحدث تلقائياً ، أم أنها ستتطلب تدخل الدولة عن طريق السياسات العامة ؟ أم أنه لا بد لنا من أن ننتظر حدوث بعث ديني لا يمكن التكهن بمداه ، ولا يمكن السيطرة عليه ، لنعيد القيم الاجتماعية ؟
هكذا بدأ الكاتب الأمريكي فوكوياما الفصل الأخير من كتابه (الانفراط العظيم) الذي كان قد قدم له بعدة فصول استغرقت أكثر من مائة صفحة ، كان قد ذكر فيها مصادر النظام الاجتماعي ، وحصرها في أربعة هي : الطبيعة البشرية ، والتنظيم الذاتي ، والدين ، والسياسة ، ثم تساءل هنا : عن أي مصدر منها سنستمد في المستقبل ؟ سنذكر فيما يلي رأي الكاتب ملخصاً مع تعليقات على بعض فقراته .
هل سيستمر الانحدار ؟ يجيب الكاتب بأن الانفراط العظيم الذي حدث في المدة التي حددها ليس نهاية المطاف ، بل إنه ستكون عودة إلى القيم اللازمة للمجتمع . لماذا ؟ لأنه قد حدث مثل هذا الانفراط من قبل في التاريخ الأوروبي والأمريكي ، بل وفي اليابان ؛ لكنه لم يستمر ؛ بل عاد الناس بعده إلى الالتزام بالقيم الضرورية لكل مجتمع إنساني . فهل سيحدث مثل هذا الرجوع إلى تلك القيم الآن كما حدث من قبل ؟ يتفاءل الكاتب بأن هذا سيحدث ، بل يرى أنه بدأ يحدث فعلاً ؛ فمعدلات الزيادة في الجريمة ، والطلاق ، والأطفال غير الشرعيين ، وفقدان الثقة ، بدأت تتباطأ كثيراً في التسعينات ، بل إن بعضها انعكس . كما أنه حدث تحول بقدر مائة
وثمانين درجة في آراء الأكاديميين بالنسبة للقيم ؛ فهم الآن يقولون : إن القيم وتركيب الأسرة تؤثر تأثيراً كبيراً في ما يحدث في المجتمع . إن فترة تعاظم الفردية قد انتهت ، وبعض القيم التي محتها فترة الانفراط بدأت تعود ، وبدأت أصوات مؤثرة تنادي بضرورة الانضباط في السلوك وتحمل مسؤوليات الأسرة والأطفال . وهذه الأصوات أشد ما تكون مخالفة لما كان يقوله المعالجون النفسيون للناس في الستينات والسبعينات . لقد كانوا ينصحونهم بمماشاة شهواتهم ، وأن لا يلقوا بالاً للضوابط الاجتماعية التي تقف في طريق ” نموهم الشخصي ” . وهو يرى أن هذا الاتجاه سيستمر . لماذا ؟ لأن الناس بطبيعتهم حيوانات اجتماعية ، وهم إلى ذلك صناع عقلانيون للقيم الحضارية . والفطرة والعقلانية يعين كلاهما على نمو الفضائل العادية مثل : الأمانة ، والثقة اللذين يكونان أساس الرأسمال الاجتماعي . ويضرب مثلاً على ذلك بالقيم المتعلقة بالأسرة . لقد حدث تغير هائل بعد الستينات في القيم التي تضبط سلوك الرجال والنساء فيما يتعلق بالأسرة ، تغيرٌ كانت نتيجته الإضرار بمصالح الأطفال : فالرجال عزفوا عن الأسر ، والنساء أنجبن بطريقة غير شرعية ، والأزواج تفارقوا لأتفه الأسباب . وكثيراً ما تضاربت مصالح الآباء والأبناء ؛ فالوقت الذي يُقضى في أخذ الولد إلى المدرسة أو الملعب ، يكون على حساب وقت يُقضى في وظيفة ، أو مع صديقة ، أو في أي نشاط ترفيهي . لكن الوالدين لهم مصلحة فطرية في العناية بأطفالهم ، فإذا ما بُيِّن لهم أن سلوكهم هذا يضر بأولادهم ، فمن المحتمل أن يغيروا سلوكهم تغييراً يكون فيه عون للأولاد . لكن الوصول إلى مثل هذا القرار العقلاني لا يتأتى آلياً ؛ ففي فترة الانفراط العظيم أفرزت الثقافة العامة صوراً إدراكية أعمت الناس عن رؤية الآثار الضارة لسلوكهم حتى على أقرب الناس إليهم ؛ فقد كان علماء الاجتماع
يقولون لهم : إن النشأة في أسرة مفككة ليس بأضر من النشأة في أسرة متماسكة . بينما كان المختصون في معالجة المشكلات الأسرية يطمئنونهم بأنه من الأفضل للأطفال أن يتفرق الوالدان بدلاً من أن يبقيا متشاكسيْن . وقالوا لهم بأن سعادة أبنائكم في سعادتكم ، فلا بأس عليكم من أن تقدموا مصلحتكم على مصلحتهم . هذا وكانت الثقافة العامة تصبُّ على الوالدين وابلاً من الأفكار التي تبرز الجنس بطريقة فاتنة ، وتصور الحياة العائلية التقليدية بأنها مرتع للنفاق ، والقهر والخبث . إن تغيير هذا كله يحتاج إلى نقاش ، وحجج ، بل وحروب ثقافية . لكن الكاتب يذكرنا بأن النظام الاجتماعي لا يعاد تكوينه بجهود الأفراد وحدها ، بل لا بد من أن تساعد عليه السياسة العامة للدولة ، عن طريق قوات الأمن وعن طريق التعليم . يبدو من هذا الذي ذكره الكاتب أن السبب الحقيقي للانفراط لم يكن في التطور التقني كما تقول نطريته التي بسطها في بداية كتابه ، وإنما كان في بعض الأفكار الضالة التي قُدِّمت للناس باسم بعض العلوم فصدقوها . وهذا يعني أنه لو كانت قد شاعت بين الناس أفكار صحيحة فلربما لم يكن للتطور التقني تلك الآثار التي ذكرها . كان بإمكان الناس أن يستفيدوا من حبوب منع الحمل مثلاً من غير أن تشجعهم على الإباحية الجنسية .
يتساءل الكاتب : إلى أي مدى ستستمر هذه العودة إلى القيم ؟ من المحتمل – فيما يرى – أن نرى تغيراً في مستويات الجريمة ، ومستوى ثقة الناس بعضهم ببعض وبالمؤسسات والحكومات ، أكبر مما نرى في القيم المتعلقة بالجنس ، والإنجاب ،والحياة الأسرية ؛ لأن التطور التقني والاقتصادي جعل الرجوع إلى القيم السابقة بالنسبة لهذه الأخيرة أمراً في غاية البعد ؛ لأن الخوف من الحمل قد زال بسبب الحبوب ، ولأن الخوف من أن يعيش الطفل غير الشرعي حياة بائسة قد زال بسبب عمل المرأة وبسبب الإعانات الحكومية . وقلة الإنجاب لن تتغير ؛ لأن الوالدين يريان أن من مصلحة أولادهم أن لا تكثر أعدادهم .
وما يقوله الكاتب هنا مبني على تصور غالط لمضار العلاقات الجنسية غير الشرعية . إن مضارها ليست محصورة فيما ذكر ؛ بل إنها لتؤثر على العلاقة بين الزوجين وتتسبب في الطلاق ، وفي اختلاط الأنساب ، كما تؤثر على العلاقة بين الوالدين وأبنائهم ، بل إن هذه الفاحشة لتؤثر تأثيراً نفسياً سيئاً على كل مرتكب لها . والفردية التي عدها الكاتب من أسباب الانفراط لا علاقة ضرورية بينها وبين التطور التقني ، بل كان بإمكان الناس أن يبقوا على أريحيتهم وهم يتطورون تقنياً . لكن الذي يرجوه الكاتب هو أن تتغير القيم المتعلقة بعمل المرأة . إن القيم السائدة الآن – ولا سيما في البلاد الاسكندنافية – تعلي من قدر المرأة التي تعمل ، وتنظر باحتقار إلى التي تبقى في البيت . فإذا ما تبين أن عدم بقاء الأم مع أطفالها الصغار ضار بهم فإن هذه القيمة الشائعة الآن قد تتغير فيما يرى . وقد يساعد عصر المعلومات في حل إشكال عمل المرأة بأن يمكنها من أن تعمل من داخل بيتها . وكما كان للدين تأثير في إعادة بناء المجتمع في الماضي فيتوقع أن يكون له تأثير الآن ، لكن الرجوع إلى الدين هذه المرة لن يكون رجوعاً إلى التصديق
بالوحي ، بل سيكون رجوعاً إليه بسبب تأثيره الحسن على الحياة الاجتماعية . يبدو أن الكاتب ليس رجلاً متديناً ؛ لكنه مع ذلك يعترف في كتابه بما للدين من تأثير في ما سمي بالرأسمال الاجتماعي . فالدين في رأيه هو الذي جعل القيم قيماً إنسانية عالمية ، لا قيماً فردية أو أسرية أو قبلية . لكنه يعتقد – كما رأينا – بأنه من غير المحتمل أن ترجع المجتمعات الحديثة إلى التصديق بحقائق الدين . لكن قيم الدين مبنية على الإيمان بحقائقه ؛ فهي تابعة لهذا الاعتقاد ومنبثقة عنه ، فإذا ضعف أو انعدم الإيمان بحقائقه ضعف أو انعدم الإيمان بالقيم الخلقية المتصلة به . إن مشكلة الغربيين أنهم يفترضون أن كل ما يصدق على الدين الذي عرفوه يصدق على الأديان الأخرى ، فكأن الأديان كلها عندهم دين واحد هو الدين النصراني . ومن البداهة أن هذا ليس بصحيح ، وإذن فإن التطور العلمي والعقلاني الذي أدى إلى ضعف الإيمان بالنصرانية لن يؤدي بالضرورة إلى ضعف الإيمان بالإسلام ، بل المتوقع أن يؤدي إلى الإيمان به ، لما يجده فيه من يعرفه من عدم التناقض مع مقتضيات العقل ، أو المخالفة لحقائق العلم . فلماذا لا يكون الرجوع
إلى القيم اللازمة للمجتمعات عن طريق هذا الدين الذي لا يجد الشخص المعاصر مشكلة في الإيمان بحقائقه ؟ هذا الذي نتوقع أن يحدث : ] سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ [{فصلت : 53] . }
يختم المؤلف كتابه بتخوفه على المجتمعات الليبرالية السائدة في الغرب الآن ؛ وذلك لسببين :
أولهما : القيم الخلقية الوحيدة التي تقدمها الليبرالية للمجتمع هي قيم التسامح والاحترام المتبادل . لكن حين تتحول هذه القيم إلى عودة إلى التعدد الثقافي بدلاً من التسامح معه ، وحين تصل النسبية الخلقية إلى غايتها ، فإن الليبرالية تكون قد بدأت تتسبب في انهيار الأرض التي تقف عليها .
وثانيهما : أن التطور قد يجعل الالتزام ببعض القيم عسيراً مع أنها لازمة للمجتمع ، فإذا ما تسارع هذا التطور لم يعط الناس فرصة للتكيف ، فتكون النتيجة تأثيراً سيئاً على المجتمعات . ونختم نحن تعليقنا بتكرار القول بأن في الحقائق التي ذكرها الكاتب ما يؤكد
أن علة العلل بالنسبة للمجتمعات الغربية ليست في التطور التقني متسارعاً كان أم متباطئاً ، وإنما هي في بعدهم عن الدين الحق الذي يمدهم بالقيم الفاضلة ، واستعاضتهم عنه بأفكار قد ثبت الآن بطلانها وعقمها الخلقي . وعليه فلا حل لمشكلة التدهور الخلقي الذي صحب التطور العلمي والتقني إلا في الاستمساك بدين لا تتناقض مقرراته مع الحقائق العلمية ولا تتنافى مع القوانين المنطقية .
والله الهادي إلى سواء السبيل

مجلة البيان العدد 144شعبان 1420 هـ