الاعتبار بمآلات معاصي الكفار
202

خلق الله الإنسان روحاً وجسداً ، ذكراً وأنثى ، فرداً وجماعة . وكما جعل لجسده تركيباً معيناً ذا خصائص معينة لا يصلح لها إلا نوع خاص من الطعام والشراب والهواء ودرجات الحرارة وغير ذلك ، جعل لروحه أيضاً تركيباً خاصاً لا يصلح له إلا نوع معين من المعتقدات والأحوال والأقوال والأعمال.

 ثم جعل بين الجسد والروح علاقة تبادل وتكامل ، وكذلك بين الذكر والأنثى والفرد والجماعة . ثم جعل بين كل هذه الصور الإنسانية علاقات ، ثم جعل بينها وبين عالم الملائكة و الجن والطبيعة علاقات معينة لا يعلمها على حقيقتها وبكل تفاصيلها إلا هو سبحانه : ] وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [ ( البقرة : 232 ) . فالله يخبرنا أن بعض أعمالنا تؤثر في الطبيعة : ] ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس [ ( الروم : 41 ) ، والفساد المقصود هنا هو الفساد الطبيعي المادي لا الفساد الخلقي ، بل هو ناتج عن الفساد الخلقي المشار إليه بقوله تعالى : ] بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس [ ( الروم : 41 ) ، ولأعمالنا تأثير على الملائكة لأنها كما يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم : « إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم » [1] ولأنها لا تدخل بيتاً فيه صورة كما يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً . ولأعمالنا أيضاً تأثير على الجن ، ولأعمال الأفراد منا تأثير على المجتمع ؛ ولذلك حرم الله أشياء مثل السرقة والظلم والبغي . ولتصرفات الرجال تأثير على النساء كما لتصرفات النساء تأثير على الرجال : « لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان » [2] .

ثم أرسل رسله بشرع يحقق للناس مصالحهم الروحية والجسدية ، الدنيوية والأخروية ؛ لأنه شرع قائم على علم المشرِّع الخالق سبحانه علماً محيطاً بكل تلك الخصائص والعلاقات ، وما يصلح لها وما لا يصلح من تصرفات الناس الاختيارية : ] وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح [ ( البقرة : 220 ) . والذين يستمسكون بشرع الله تعالى وإن لم يعلموا تفاصيل الأسس التي بناها الله تعالى عليها يجدون في تجربتهم مصداق ما وعد الله به من الآثار الحميدة لهذا الشرع في حياتهم ، حتى إن قائلهم ليقول : لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

 وكما يعرف المؤمن بتجربته الآثار الطيبة للطاعة فإنه يعرف بتجربته أيضاً كثيراً من الآثار السيئة للمعاصي التي لا يبرأ منها أحد ، وإن اختلفوا فيما يقترفون منها صغراً وكبراً ، كيف و « كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون » [3] . لكن الآثار العظيمة للمعاصي كبيرها وصغيرها إنما تظهر في المجتمعات الكافرة الغافلة غفلة كاملة عن شرع الله عقيدة وعبادة وخلقاً وسلوكاً وحياة اجتماعية وسياسية واقتصادية . وكلما كثرت المعاصي وكلما طال أمد مقارفتها والجهر بها واعتيادها كان ظهور آثارها السيئة أكبر وأبين . وإنه لمما يزيد إيمان المؤمن بصدق الرسالة النبوية وتحقيقها للمصالح البشرية أن يرى هذه الآثار السيئة لمخالفتها .
إن الاعتبار بالواقع طبيعياً كان أم اجتماعياً منهج إسلامي أصيل ترشد إليه كثير من نصوص الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى : ] قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ [ ( الأنعام : 11 ) ، ] قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ [ ( النمل : 69 ) . وذلك أن المصالح التي وضعت الشريعة لتحقيقها والمفاسد التي وضعت للتحذير منها ما هو أمر ظاهر يمكن مشاهدته ، ويسهل لذلك الاعتبار به . ولذلك ندب الله تعالى عباده المؤمنين إلى الاعتبار بأحوال الكفار ومصائرهم .

ونحن نعيش في عصر عمت فيه بلوى البعد عن شرع الله في مجتمعات كاملة كالمجتمعات الغربية . لذلك أرى أنه من واجبنا وخدمة لديننا وتحقيقاً لمصالحنا أن نعنى بمآلات معاصيهم وندرسها ونتدبرها وننشرها بين الناس مسلمين وغير مسلمين ، بل أن نجعل هذا الاعتبار بتجارب الغربيين الكفار علماً قائماً بذاته نحشد له جهودنا جمعاً لمواده وتصنيفاً ، وتفسيراً علمياً لها ، ودعوة إلى الاتعاظ والاعتبار بها . ونحن لا نحتاج لتحقيق ذلك أن نقوم بإجراء بحوث ميدانية في المجتمعات الغربية ؛ فقد كفونا هم مؤونة ذلك . فمن حسنات منهجهم العلمي في مجال الدراسات الاجتماعية أنهم يبحثون في الآثار المترتبة على أعمالهم ، ويحاول علماؤهم أن يكونوا في ذلك محايدين لا تصدهم آراؤهم الشخصية عن نشر نتائج ما وصلوا إليه من دراسة وتجارب . فحياة الغربيين التي يمارَس فيها ما حرم الله تعالى ينبغي أن تكون بالنسبة لنا كما ذكرت في مناسبة سابقة كالتجربة التي يسميها العلماء الطبيعيون التجربة الحاكمة ( experiment control ) . ما أكثر المادة العلمية المتعلقة بتأثير المعاصي على حياة الغربيين ، معاصي الزنا والشذوذ وشرب الخمر وتعاطي المخدرات واختلاط الرجال بالنساء والسفور ، بل وحتى تولي المرأة لعمل الرجال ، وتولي الرجال لأعمال النساء .
ولكي يفي هذا العلم المقترح بشروط العلم فينبغي أن يكون اعتماده على الحقائق التي اكتشفها الغربيون بالوسائل العلمية ، وأن توثق هذه الحقائق بذكر مراجعها ، وأن لا يخلط بينها وبين الآراء التي يعبر عنها بعض الغربيين لمجرد أنها موافقة لديننا ، لأن الرأي ليس له سلطان الحقيقة العلمية . والحقائق العلمية التي أعنيها تشمل كل أنواع العلوم الطبيعية والاجتماعية والنفسية . ولذلك فإنه لا بد من أن تتضافر على جمعها جهود كل المختصين أو المهتمين بهذه العلوم . وهذا يقتضي أن يكون هنالك مركز ترسل إليه هذه الحقائق لجمعها وتصنيفها ثم نشرها . ولما كانت هذه الاكتشافات مستمرة فلا بد أن يكون جمعها وتصنيفها ونشرها أيضاً مستمراً . ولهذا ربما كان الأنسب لنشرها هو المجلات ، أو الكتيبات الشهرية .

قد يثير هذا الاقتراح سؤالين :
أولهما : إن ما تدعو إليه ليس بالأمر الجديد ؛ فما أكثر ما كتب الإسلاميون في مقالاتهم وكتبهم عن الآثار التي ترتبت على ما شاع في البلاد الغربية من معاص وانحرافات . ونقول هذا صحيح . وقد كنت أنا نفسي لخصت لمجلة البيان كتاباً لفوكوياما : ( الانفراط أو التفكك الحاصل في المجتمعات الغربية ) وعزوه أسباب ذلك إلى تفكك الأسرة الذي كان بدوره ناتجاً عن تفشي العلاقات الجنسية خارج نطاق الزوجية . وقد كتب صديقنا أستاذ علم النفس الدكتور مالك بدري كتاباً كاملاً عن العلاقة بين مرض الإيدز والقيم المصاحبة للحداثة . لكن الذي ندعو إليه هو أن يولى هذا الأمر عناية أكبر وأن يشارك في جمع معلوماته عدد أكبر ، وأن يوضع له
منهج وضوابط تجعل منه علماً معترفاً به .
وثاني السؤالين هو : لماذا يحصر هذا العلم في ممارسات الدول الغربية ؛ مع أن الواقع هو أن كثيراً من تلك الممارسات شاعت في العالم كله بما فيه العالم الإسلامي ؟ ونقول أيضاً : إن هذا صحيح ؛ لكن الغرب كان أسبق إليها ، وقد داوم عليها لمدة أطول ، وصار يستعلن بها ، ويدافع عنها ، ويدعو إليها ، بل يحاول عن طريق الأمم المتحدة أن يفرضها على بقية شعوب العالم . ولكن مع هذا لا بأس من تعزيز النتائج التي حدثت في الغرب بمثيلات لها في بقية بلدان العالم .
________________________
(1) أخرجه مسلم ، رقم 876 .
(2) أخرجه الترمذي ، رقم 1091 .
(3) أخرجه الترمذي ، رقم 2423

مجلة البيان العدد 177 , جمادى الأولى 1423 هـ