الأجوبة الإسلامية عن الأسئلة الفلسفية
293

ربما صح القول بأن الذي يجمع الفلاسفة هو المشكلات التي يعالجونها لا العلاجات التي يقترحونها.  فمن الخطأ إذاً أن يُسأل عن الإجابة الفلسفية عن سؤال ما، لإن عدد الإجابات الفلسفية ربما كان بعدد الفلاسفة، أو عدد المدارس الفلسفية.

وعليه فإن الفلسفة الإسلامية الحقة، إن كان لابد من نسبة الفلسفة إلى الإسلام، هي الأجوبة التي نجدها في مصادر الإسلام الأساسية –القرآن والسنة- عن تلك الأسئلة الفلسفية.  وعليه فإن الفيلسوف المسلم حقاً هو الذي يعتمد في أجوبته الفلسفية على تلك المصادر؛ فهو يغوص في نصوص الكتاب والسنة باحثاً عن تلك الأجوبة، متأملاً فيها، مبيناً لها، مدافعاً عنها، مجادلاً لمخالفيها، سالكاً في ذلك منهجاً عقلياً، ولغة يفهمها المخاطبون في عصره.

فمصادر الفلسفة الإسلامية الحقة، ليست هي كتابات المفكرين الذين اشتهروا بلقب الفلاسفة المسلمين من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا، لأن هؤلاء كانوا يقفون على أرض الفلسفة اليونانية وينطلقون من كثير من مسلماتها، وإن كانوا أحياناً، بفضل بيئتهم الثقافية الإسلامية، يأتون بما يخالف الفلسفة اليونانية، وما يعد أصيلاً عندها.

إن الذي يمثل الفكر الإسلامي الصحيح هم العلماء الفقهاء المتبحرون في علوم الكتاب والسنة، والآثار السلفية.  وقد كان هؤلاء من ألد خصوم الفلاسفة لما رأوه في فكرهم من مخالفة لما عرفوه من حقائق الإسلام المقررة في الكتاب والسنة والآثار السلفية.  ولأن الفلسفة لم تكن تعني في ذلك الوقت إلا هذا الفكر المتبع لسنن الفكر اليوناني الوثني، فإننا نجد في كتابات العلماء، ذماً لها، ونصحاً للناس بالابتعاد عنه.

أما إذا أخذنا الفلسفة بمفهومها العام الذي هو محاولة الإجابة عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بالوجود والعقل والأخلاق والمعرفة وما إليها، فلا أرى من بأس من تسمية الأجوبة الإسلامية عن هذه القضايا الأساسية بالفلسفة الإسلامية، فأنه لا مشاحة في الألفاظ مهما اتضحت المعاني.

وفيما يلي بيان موجز لبعض تلك الأجوبة لخصت أكثره من كتابات وأحاديث كنت ألقيتها في مناسبات متعددة على مدى سنين عدة.  فعلت هذا استجابة لدعوتكم الكريمة لي بالحديث عن النظرة الإسلامية إلى الفلسفة، وهو موضوع من الصعب أن يوفيه الإنسان حقه في محاضرة واحدة لساعة واحدة، لكن علمائنا كانوا يقولون إن ما يدرك كله لا يترك كله.

 نظرية المعرفة:

ريما كانت قضية القضايا في الفلسفة تلك الأسئلة المتعلقة بالمعرفة والتي تكون الإجابات عنها ما يسمى بنظرية المعرفة.  ولعل أهم الأسئلة التي تُسأل في هذا المجال هي:

ما تعريف العلم؟
هل العلم ممكن؟
هل هنالك علم سابق للميلاد؟  أم أن المولود يولد صفحة بيضاء؟
كيف نعلم؟

ما العلم؟

يبدو من بعض الآيات القرآنية أن الإسلام يؤيد رأي نظرية المطابقة،  أي النظرية القائلة بأن العلم هو القول، أو التصور المطابق للواقع.  كان بعض العرب يعتقدون أن الرجل الذكي له قلبان، وكان الواحد منهم إذا غضب من زوجته قال لها أنت كأمي، ثم اعتبرها كذلك فلم يعاشرها معاشرة الزوجة، وكان الواحد منهم يتبنى ابن غيره أو بنته وينسبه إلى نفسه كأنه ولده، كما يفعل الناس الآن في الغرب.  فحَكَمَ الله تعالى على كل هذه الدعاوى بأنها مجرد كلام لساني، وأنها مخالفة للحق، فقال تعالى:

(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبنائكم ذلكم قولكم بأفواهكم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) [الأحزاب: 4]

و هل العلم ممكن؟

إذا أخذنا هذا السؤال على ظاهره وجدناه كلاماً متناقضاً، لأن الإنسان حين يسأل عن إمكانية العلم يفترض أنه يعلم ما العلم، ولكن إذا كان يعلم ما العلم فهو يعلم شيئاً.  لكن لعل أصل السؤال هو عما إذا كان ما نعتقد أنه علمٌ حقيقي مطابق للواقع هو كذلك فعلاً، أي أنه ليس خيالاً ولا وهماً.  وعلى كلٍ فإن في القرآن الكريم ما يدل على أن العلم ممكن، وأنه من نعم الله التي تقتضي الشكر.  قال تعالى:

(والله أخرجكم من بُطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) [النحل:78]

الآية السابقة قاطعة في الإجابة عن هذا السؤال بالنفي.  فالعلم إذاً يُكتسب كله بعد الميلاد.  ولكن هل معنى ذلك أن العقل يأتي صفحة بيضاء تكتب عليها الحواس ما تريد؟  كلا!  فنحن نقرأ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.” (رواه مسلم)

هذا الحديث يدل على أن الإنسان وإن كان لا يولد عالماً بشيء، إلا أنه لا يولد بعقل فارغ، وإنما يولد وفي عقله بذور علم تنمو بنموه وتبلغ كمالها بنضجه، لكن هذا العلم المبذور أصله في الإنسان يمكن أن تعارضه المؤثرات الخارجية، وإن كانت لا تملك إزالته.

ما هذه العلوم المغروسة بذورها في فطرة الإنسان؟  الحديث السابق يجعل الفطرة شيئاً مختلفاً عن اليهودية والنصرانية والمجوسية. وهذا يعني أن الفطرة هي الإسلام.  ومن البديهي أنه ليس المقصود بذلك أن الإنسان إذا نما عقله وجد نفسه عالماً بكل تفاصيل الدين الإسلامي، وإنما المقصود أمران:

أحدهما: أن الإنسان يولد وفي عقله بذرةالتوحيد، أي الإقرار بأنه لا إله يستحق أن يعبد إلا الإله الذي هو الخالق الواحد.

وثانيهما: أن هذا الإنسان يولد بفطرة لا تناسبها اعتقاداً وسلوكاً إلا الحقائق والأحكام التي جاء بها الإسلام.

ولهذا وصف الله تعالى الدين الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه هو الفطرة التي فطر الله عليها عباده.  فقال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم: 30]

وإذا كان الإنسان قد صمم وعيه أو فطرته بحيث لا تناسبها إلا حقائق الإسلام وأحكامه، فإنه لا يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية إلا إذا كان مسلماً عابداً لله (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) [الرعد: 28]

كيف نعلم؟

هنالك ثلاثة مسائل كثيراً ما يخلط بينها الذين يحاولون الإجابة على هذا السؤال، أرجو من القاريء أن يميز بينها، وهي السؤال عن مصدر العلم، وعن الوسائل التي يكتسب بها العلم، وعن المنهج الذي يتبع لاكتساب العلم.

فالمصدر كما يدل عليه اسمه هو المكان الذي يوجد فيه العلم، والوسائل هي القوى والآلات التي زودنا الله بها لاكتساب العلم، والمنهجهو الطريقة التي نتبعها للحصول على العلم من مصدره بتلك الوسائل.

فمصادر العلم عند المسلم هي الكون والوحي، ووسائله هي الحس والعقل، وأما المنهج فيختلف باختلاف نوع العلم ونوع المصدر.  فمن الخطأ إذاً أن نقول -كما يقول بعض المتدينين- إن مصادر العلم أو وسائله هي الحس والوحي، أو إن المنهج العلمي خاص بالعلوم التجريبية.

وسائل المعرفة

قررت الآية التي ذكرناها في بداية هذا المقال أن الإنسان يولد جاهلاً، وأن الله تعالى يزوده بالسمع والبصر والعقل، فبينت أن الإنسان لا يمكن أن يكتسب معرفة  -سواء كانت دينية أو دنيوية- إلا عن طريق الحس والعقل.  لماذا أقول الحس مع أن الآية لم تذكر إلا السمع والبصر؟  لأن الحواس الأخرى مذكورة في آيات أخرى، أما هذه الآية فركزت على أهم الحواس الأخرى بالنسبة إلى المعرفة.

الحواس كما هو معلوم مرتبطة كلها بالدماغ ومن ثم بالعقل.  فالعقل هو الذي يحول المادة الآتية عن طريق الحواس إلى أشياء لها معنى بالنسبة إلى الإنسان.  لكن أكثر الحواس ارتباطاً بالعقل هو السمع، لأن الإنسان كما يسمع أصواتاً كتلك التي تنبعث من الأشياء الطبيعية كالرعد والريح والطيور والحيوانات والحشرات، فإنه يسمع الكلام، وهو أصوات تدل على معانٍ، والسمع  يستعمل غالباً في القرآن الكريم بهذا المعنى الأخير. أما الذي لا يعقل الكلام ولا يستفيد منه، فإن القرآن يشبهه بالحيوان الذي لا يسمع من الكلام إلا الأصوات.  والسمع مرتبط بالعقل ارتباطاً آخر هو أن الكلام منه ما هو حق ومنه ما هو باطل ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالحس وحده، بل لابد أن ينضم إليه العقل فيقرر أولاً إذا ما كان الكلام متناقضاً أم مُتسقاً،  فإذا وجده متناقضاً حكم ببطلانه، وإذا وجده متسقاً نظر في معناه، هل هو موافق للواقع الذي يشير إليه أم لا؟  والحكم على الموافقة أو المخالفة قد يكون عملاً بسيطاً كأن يقال إن الشمس طالعة فينظر الإنسان إلى الشمس فإن وجدها طالعة حكم بصحة الكلام، وإن وجدها غير ذلك حكم ببطلانه.  وقد يحتاج الحكم على الكلام بالصحة أو البطلان إلى عملية طويلة مركبة، كالتأكد من صحة نظرية فيزيائية كالنسبية.

مصادر المعرفة

للحقائق كلها مهما كانت أنواعها مصدران لا ثالث لهما: الكون والوحي، أو قل خلق الله ووحي الله.  فإذا ادعى إنسان دعوى ليس عليها دليل من هذين المصدرين أحدهما أو كليهما، كانت دعواه باطلة.  قال تعالى: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات، أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه؟ بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً) [فاطر: 40]  فعبادة هؤلاء لما عبدوه من دون الله تتضمن الدعوى بأنهم أرباب، والرب لابد أن يكون خالقاً، والعلم بأنه خالق يكون إما بمشاهدة ما خلقه في الكون، وإما بوحي من الإله الذي ثبت أنه خالق.  فإذا لم يكن لهذه الدعوى سند لا من خلق الكون المشهود، ولا من كلام الإله الخالق، كانت بالضرورة باطلة.

فالتصور الإسلامي لمصادر المعرفة يختلف عن التصور المادي الإلحادي الذي يجعل الكون وحده مصدراً لها ولا يتصور منهجاً علمياً إلا المنهج الذي تعرف به حقائق هذا الكون.  لكنه يختلف أيضاً عن التصورات الدينية والميتافيزيقية الأخرى.  ومحور اختلافه معهما في كونه يقيم أدلة من هذا الكون المشهود على دعواه بأن هنالك مصدراً ثانياً هو الوحي، على حين ينكر الماديون هذه الحقيقة التي يدل عليها المصدر الذي يُقِرون به فيتناقضون؛ ويؤمن أصحاب التصورات الدينية والميتافيزيقية الأخرى بمصادر لا يملكون أثارة من دليل على صحتها.

الأدلة على الوحي

عندما قال محمد صلى الله عليه وسلم لقومه من العرب أنه نبي، وكانوا من أذكى الناس،  اعترض كثير منهم على دعواه بكل ما يمكن أن يعترض به إنسان، فلم يتركوا لمن بعدهم حجة جديدة يعترض بها، لكن محمداً صلى الله عليه وسلم أجاب عن اعتراضاتهم كلها بأدلة وبراهين في غاية العقلانية والعلمية.  من ذلك: أن بعضهم قال إنه لا يؤمن بنبوته لأنه لا يعتقد أن للكون خالقاً، فكان الجواب، إذاً كيف وجِدُتم؟  أمن العدم المحض؟ فهذا شيء مستحيل.  أم أنكم أنتم الذين خلقتم أنفسكم؟ لكن هذا أيضاً مستحيل.  فلم يبق إلا أن يكون لكم خالق لم يُخلَق ولم يلد ولم يولد.

 (أم خُلقوا من غيرِ شيءٍ أم همُ الخالقون.  أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) [الطور: 35-36]

وقال بعضهم إنه يؤمن بوجود الخالق لكنه لا يعتقد أن البعث ممكن، فكانت الإجابة أنك إذا كنت تؤمن بأن الله أوجد الإنسان بعد أن لم يكن، فكيف تنكر مقدرته على إعادته بعد موته مع أن هذا أهون؟  ثم ترى في هذا الكون الذي أمامك أن الله تعالى يحيي الأرض بالنبات ثم يميتها بالجدب، ثم يحييها مرة أخرى، فالذي أحيا الأرض بعد موتها كيف لا يقدر على إحياء الإنسان بعد موته؟

 (وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديداً؟  قل كونوا حجارة أو حديداً، أو خلقاً مما يكبر في صدوركم.  فسيقولون من يعيدنا؟  قل الذي فطركم أول مرة) [الإسراء: 51]

(فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إنَّ ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) [الروم: 50]

وإذا كنت تؤمن بالله فإنك لاشك تؤمن بأنه متصف بكل صفات الكمال منزه عن كل نقص، وتؤمن لذلك بأنه حكيم لا يتصرف تصرفاً فيه عبث.  ولكن هذا الإله الحكيم أرسل رسلاً ليهدوا الناس إلى طريق الخير، ويحذروهم من سلوك طريق الشر، وأمر الناس بطاعتهم، فآمن بعض الناس بهم وسلك طريق الخير، وكفر آخرون بهم وسلكوا طريق الشر، فهل ترى من الحكمة أن يجعل مصير الفريقين واحداً؟  لكن هذه الدنيا التي نعيش فيها ليست بدار جزاء كما نشاهد، فكم من إنسان خيّرٍ عاش حياة قاسية أو قُتل مظلوماً، وكم من إنسان شرير عاش منعماً ومات بعد عمر طويل.  فإذا لم تكن بعد هذه الحياة حياة يلقى فيها المحسنون جزاء أعمالهم ويلقى فيها المسيئون عقاب سيئاتهم كان خلق الناس وإرسال الرسل إليهم عبثاً.

(أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون؟  فتعالى الله الملك الحق لا إله هو رب العرش الكريم) [المؤمنون: 115-116]

(أم حسب الذي اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذي آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون.  وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) [الجاثية: 21-22]

وقال بعضهم، وكانوا يهوداً، إنهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يعتقدون في رسالة محمد لأنهم لا يعتقدون أن الله يرسل رسلاً.  فكانت الإجابة أن الذي يعتقد أن الله لا يرسل رسلاً لا يقدر الله حق قدره، لأنه إذا عرف الله تعالى وقدره حق قدره علم أنه لا يمكن أن يخلق الناس ويتفضل عليهم بكل ما تحتاجه أجسامهم من طعام وشراب ولباس وأرض وهواء وشمس وقمر، ثم لا يمدهم بما تحتاج إليه أرواحهم من هداية بل يتركهم حيارى يتخبطون ويختلفون ويقلقون.  ثم إذا كنتم لا تعتقدون أن يبعث إنساناً برسالة، فكيف تؤمنون بموسى رسولاً؟  من الذي أرسل إليه الكتاب الذي جاء به؟

(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء.  قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى تبدونها وتخفون كثيراً، وعُلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟  قل الله.  ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) [الأنعام: 91]

وقال بعضهم إنه يعتقد أن الله يرسل رسلاً لكنه يتساءل لماذا  يرسل الله إلى الناس بشراً مثلهم؟  لماذا لا يرسل إليهم ملائكة؟  فكان الجواب أن الملائكة إنما يرسلون إلى الملائكة، وأن الذي يناسب البشر هو بشر مثلهم يكلمهم بلغتهم ويكون قدوة لهم.  ولو أرسل إليهم رسول وفعل أشياء يستصعبونها ويأمرههم بفعلها لاحتجوا بأنه ملك يستطيع ما لا يستطيعون.

(قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) [الإسراء: 93]

ثم إنه أعطاهم أدلة على صدق نبوته من سيرته، فقد عرفوه رجلاً صادقاً أميناً، فما كان ليَذَر الكذب على الناس إلى سن الأربعين ثم يكذب على الله تعالى.  وعرفوا أنه كان أُمياً لا يقرأ ولا يكتب:

(وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) [العنكبوت: 48]

وقد أبلغهم  بأنه أول من يطبق ما يدعوهم إليه، وصدَّق سلوكه قوله.

وأبلغهم أنه لا يريد منهم على ما يدعوهم إليه أجراً دنيوياً، فرأوه يعيش بينهم فقيراً كريماً رحيماً متواضعاً.  ورأوه أكثرهم تضحية وأزهدهم فيما عند الناس.  (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب) [هود: 88]

(قل ما أسئلكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين)  [الأنعام: 90]

وأعطاهم أدلة على صدق نبوته من الكتاب الذي جاء به، من حيث أنه كتاب بلغ من الاتساق ما لا يمكن أن يتوافر لكلام بشري:

(أفلا يتدبرون القرآن؟  ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)  [النساء: 82]

ومن حيث أنه مصوغ بأسلوب تحداهم أن يقلدوه أو يقاربوا ذلك وهم أرباب الفصاحة وهو بلسانهم.  (أم يقولون افتراه؟  قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين.  فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما أُنزل بعلم الله، وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون؟) [هود: 13-14]

ومن حيث الهداية التي جاء بها في تعريف الناس بربهم بكلام لا يجدونه في كتب الفلاسفة ولا كتب أهل الديانات الأخرى، وفي بيان الطرق التي يعبدون بها ذلك الإله الحق، وفي بيان الخُلق الذي ينبغي أن يسلكوه في معاملة بعضهم لبعض، وفي إرشادهم إلى أنواع المعاملات والمأكولات والمشروبات التي تساعد علىالسمو الروحي فأمرهم بها، والتي تحط من قدر الإنسان وتتدلى به إلى درجة الحيوان فنهاهم عنها.

ومن حيث كونه كتاباً يرسم منهج حياة متكامل من الاعتقادات والتصورات إلى العبادات والأخلاق، إلى النظام الاجتماعي فرداً وأسرة ومجتمعاً، إلى النظام السياسي، إلى العلاقات مع غير المسلمين، وكونه يدعو إلى كل ذلك بطريقة متوازنة تلبي المتطلبات العقلية، والحاجات الجسدية، والأشواق الروحية.

نقول إذاً إن الإيمان بمصدر للمعرفة –غير الكون- دل عليه دليل علمي، لا يفتح الباب لكل مدع مصدراً غيبياً لا يقيم على حقيقته دليلاً مقبولاً عقلاً.  إن كثيراً من الكتاب الغربيين ينسون هذه الحقيقة، فيجعلون الدعاوى الغيبية كلها من جنس واحد، فيلمون السحر والكهانة والأديان الباطلة فيجعلونها في جهة، ويجعلون الحقائق العلمية الكونية في الجهة المقابلة.  هذا مع أن الإسلام ينكر كل تلك المصادر المذكورة ويعدها باطلة، ويعد اللجوء إليها ذنباً يستوجب عقوبة الله تعالى.

منار السبيل- السنة الثانية- العدد 8- صفحة 4-6 ، رمضان 1414هـ الموافق فبراير-مارس 1993م